تعتبر المؤتمرات الانتخابية التي عقدها الحزب الديمقراطي مؤخرا في ولاية أيوا, حدثا تاريخيا بمعنى الكلمة. فتأثيراتها لا تقف عند حدود التحول الكبير الذي أجرته في مسار التنافس على ترشيحات الحزب الديمقراطي فحسب, وإنما تتعداها للتأثير على الكيفية التي ستؤثر بها حرب العراق على مسار العملية الانتخابية بمجملها في العام الحالي. فقد ظلت حرب العراق, محل اختلاف كبير في أوساط المرشحين الديمقراطيين على امتداد عام كامل تقريبا. وظل هوارد دين حاكم ولاية فيرمونت السابق, الوحيد بين مرشحي الحزب الديمقراطي, الذي تمسك بمعارضته لاندفاع الرئيس جورج بوش للحرب لعدة شهور سبقت اندلاعها. ولذلك فقد كان له الدور الأكبر في قيادة الحوار العام المناهض للحرب. وكان دين هو من ألهب اجتماع اللجنة القومية للحزب الديمقراطي الذي عقد في شهر فبراير من العام الماضي.
في الاجتماع المذكور, لم يكتف دين بتعبئة قادة العمل الشعبي الديمقراطيين ضد الحرب الأحادية الغامضة التي شنها الرئيس بوش على العراق فحسب, وإنما ألهب الاجتماع بانتقاداته الحادة التي وجهها لأعضاء الكونجرس من الديمقراطيين على فشلهم في الوقوف أمام حرب احترازية لم تملها الضرورة ضد العراق. ولا زلت أذكر تفاصيل ذلك الاجتماع جيدا, لكوني كنت قد وقفت إلى جانب عضو الكونجرس جيسي جاكسون في المطالبة بضرورة أن يقدم البيت الأبيض خطة واضحة ومفصلة لتصوره الخاص بالحرب, وكم ستكون تكلفتها وما هي عواقبها, وطبيعة التزامات الولايات المتحدة خلال المرحلة التي تليها. وكان معظم قادة الحزب قد ترددوا في الوقوف إلى جانبنا, مخافة أن يوصفوا في أجواء ما بعد الحادي عشر من سبتمبر بتهمة " الضعف في جبهة الأمن القومي" وهي التهمة التي يدمغ بها الديمقراطيون عادة. غير أن حملة دين قد حظيت على رغم ذلك التردد الحزبي, بتأييد واسع النطاق من قبل التيار الشعبي العام المناهض للحرب. وكانت الاعتراضات التي ووجهت بها خطب الديمقراطيين الآخرين- غير المتحمسين لوجهة دين- مؤشرا واضحا لما سيلي ذلك الاجتماع من أحداث وتحولات.
وقد بدأت هذه التحولات بالفعل سواء داخل صفوف الحزب أم في الشارع العام الأميركي, على إثر دخول المرشح الديمقراطي الجنرال ويسلي كلارك لحلبة المنافسة في مرحلة الترشيحات الرئاسية. وجه هذا التحول هو أن دين لم يعد وحده الديمقراطي الذي يناطح إدارة بوش بسبب حربها على العراق. فحتى أولئك الديمقراطيون الذين أعطوا بوش الإشارة الخضراء من داخل الكونجرس, لشن حربه على العراق, عادوا ليعلنوا موقفهم من الطريقة التي أدار بها بوش تلك الحرب. وما أن حل خريف العام الماضي 2003, حتى تبلور إجماع جديد في صفوف الحزب الديمقراطي. فحوى هذا الموقف هو أن غالبية القادة الديمقراطيين- باستثناء السناتور جوزيف ليبرمان- قد أعلنوا انتقادهم ومعارضتهم لما أسموه " أحادية بوش الاحترازية". وانتقدوا ضمن ذلك بالطبع حربه على العراق. ومع أن الغالبية الديمقراطية توافق على أن للولايات المتحدة دورا ومسؤولية تجاه إعادة بناء العراق, إلا أنها تطالب بأن تتخلى واشنطن عن إدارتها الحالية للعراق, باعتبار أن ذلك شأن ينبغي أن تتولاه الأمم المتحدة. كما احتد هؤلاء في الانتقادات اللاذعة التي وجهوها للرئيس بوش, فيما يتصل بالمعلومات المضللة التي برر بها غزوه للعراق, وقوله إن صدام حسين كان يمثل خطرا وشيكا على أمن الولايات المتحدة والعالم بأسره.
وما أن رأى دين أن الصوت المعارض للحرب قد ارتفع وغدا مؤثرا بين صفوف الديمقراطيين, حتى عزم على مواصلة اللعبة الانتخابية على كرت الحرب. فقد درج على تذكير الناخبين دائما بأنه كان أول من عارض تلك الحرب ووقف أمام الرئيس بوش. غير أن هذا الكرت لم يجد شيئا. فقد حدثت التحولات وبدأت أنظار الديمقراطيين تتطلع إلى قيادة جديدة أدعى وأجدر بالتأييد من دين. حدث ذلك هذه المرة في ولاية أيوا, حيث أسفرت النتائج عن نسبة 75 في المئة من الديمقراطيين المعارضين للحرب. إلا أن تلك الأصوات لم ينفرد بها دين وحده, وإنما تقاسمها معه كثيرون غيره. فقد ذهبت بعض الأصوات لصالح السناتور جون كيري, والسناتور جون إدواردز وغيرهما. الملفت للنظر أن كيري قد حظي بنصيب الأسد من تلك الأصوات, وليس هوارد دين, كما كان يتوقع هذا الأخير. فما الذي صرف الأنظار عن دين إذاً ؟ عبر الناخبون صراحة وعبر صندوق الاقتراع, عن رغبتهم في مرشح آخر, أكثر خبرة وأهمية- على حد تعبيرهم- وأفصحوا عن رغبتهم في تأييد مرشح قادر على إلحاق الهزيمة بالرئيس جورج بوش. ومع هذا الانحسار المتواصل في شعبية بوش بسبب حربه الأحادية على العراق, فالواضح أن الديمقراطيين يتطلعون إلى مرشح آخر, أكثر ما يأملونه فيه هو القدرة على الفوز بالانتخابات الرئاسية للعام الجاري 2004.