قال هنري آدامز، خير المؤرخين الأميركيين قاطبة, إن الرئيس الأميركي يمثل قبطان سفينة مبحرة. ولذلك فإنه لا بد له من دفة يمسك بها, ومسار يسلكه, ومرفأ يسعى للوصول إليه. وفيما يختص بالدفة, فهذه يمنحها الدستور عادة للرئيس. إلا أنه يتعين عليه أن يمتلك من المواهب القيادية والقدرة على الإبداع, بحيث يكون قادرا على اختيار الوجهة والمسار الذي سيدفع صوبه سفينة البلاد. بقي أخيرا الميناء أو المرفأ الذي يجب أن يبحث عنه القبطان. وللأسف, فإن هذا هو أول ما شطبه الرئيس بوش من برنامج رحلته, على إثر تقليله من أهميته بوصفه المرفأ بأنه مجرد" مسألة رؤية". للمقارنة, دعنا نراجع موقف رئيس أميركي آخر إزاء مجمل المهام والأعباء الواقعة على قبطان السفينة هذا. فلا أحد يختلف حول أن الرئيس فرانكلين روزفلت, كان واحدا من أعظم الرؤساء الأميركيين الذين تولوا قيادة دفتها. قال روزفلت في حديث له عن الرئاسة: ليست هي مجرد وظيفة مكتبية. فالعمل المكتبي هو حدها الأدنى. كما أنها أكثر من مجرد وظيفة هندسية, سواء كانت هذه الهندسة جيدة أم رديئة. فهي في المقام الأول نوع من القيادة الأخلاقية. ولهذا السبب فإن كافة رؤسائنا العظام, كانوا قادة للفكر, متى ما تطلبت الحاجة, استجلاء أفكار تاريخية بعينها في مرحلة ما من مراحل حياة الأمة. بعبارة أخرى, فقد كان كافة رؤسائنا العظام مسكونين برؤاهم, وممتلئين بها. ويستطرد روزفلت في الحديث: وعليه, فقد كانت مدينة واشنطن تجسيدا حيا لفكرة الاتحاد الفيدرالي. وكان دور الرئيس جيفرسون أنه بات رمزا خالدا للديمقراطية التي أرساها جاكسون وأكد عليها. أما الرئيس لنكولن, فقد أرسى مبدأين في تاريخ هذه البلاد, مرة واحدة وللأبد: نبذ العبودية والرق, والتمييز بين البشر على أساس العرق واللون. وكان قدر كليفلاند أن يجسد الاستقامة والنزاهة الصارمة في عصر كان فساده يزكم الأنوف. وكذا كان حال الرئيسين ثيودور روزفلت ووودرو ويلسون, اللذين كانا قائدين أخلاقيين لأمتهما, باستخدامهما الكرسي الرئاسي, منبرا لتقديم القدوة الأخلاقية. وعلى حد تعبير فرانكلين روزفلت, فإنه ما لم تكن القيادة يقظة وذات حساسية تجاه ما يطرأ من تغير ومستجدات, فستفقد الأمة مسارها, أو ستتورط في الوحل.
القيادة والرؤية إذا هما توأمان سياميان يصعب الفصل بينهما. ولكن هل يعني ذلك أن كل رؤية جيدة بالضرورة؟ دونكم أدولف هتلر وجوزيف ستالين. فقد كان كل واحد منهما ممتلئا بالرؤى والأفكار. ولكن ما أسوأ الفكرة وما أفظعها, حين تكون قائمة على الدوغمائية الجامدة! عندها تستحيل إلى آلة جهنمية لا إنسانية, فظة قاسية, وبالغة الخطر. يذكر أن ما أخذ على الرئيس بوش الأب, أنه كان يعاني من قصور أو عجز في الرؤية. غير أن قصور الرؤية والرؤية التائهة, أمران لا يستويان. فقد كان في بوش الأب, شيء من اعتدال ووسطية الرؤساء. كما أنه لم يلحق أذى بأمته من أي نوع كان.
أما بوش الابن, فهو من طينة أخرى. خذ لذلك مثلا خطابه الأخير عن حالة الاتحاد الذي عج بخليط من الرؤى. فهل يبدو منطقيا أن لدى الابن شعورا بأن أباه قد ارتكب خطأين فادحين, يعتزم هو تحاشي تكرارهما: إقصاء اليمين الآيديولوجي, وغياب الرؤية. أضف لذلك أن لدى الابن شعورا بأن عليه واجبا مسيحيا مقدسا عليه أداؤه. ولذلك فهو يفكر دائما في الأمور العظام, ويتطلع إلى تسجيل اسمه في صفحات التاريخ. ذلك هو الشعور الذي خرج به بوب وودوارد مؤلف كتاب" بوش في الحرب" على إثر أربع ساعات من الحديث المباشر أمضاها مع بوش الابن. وعلى حد تعبير مؤلف الكتاب, فقد وضع بوش مهمته ومصير البلاد كلها, على مسار خطة إلهية شاملة ارتآها لإدارته. وقد صورت له خطته الإلهية هذه, أن الجنود الأميركيين الذين غزوا العراق, سوف يتم الاحتفاء بهم والتهليل لهم بوصفهم محررين, لا غزاة. وتصور أيضا أن من شأن إجراء تحول ديمقراطي في العراق, على طريقة جيفرسون, أن يكون فاتحة طريق لإحداث تحول سياسي واسع النطاق وعلى النهج ذاته, في العالم الإسلامي بأسره.
ولكن ها قد تبدد الحلم, وخابت معه الرؤية التي نهض عليها. وعلى رغم ما يقال عن قصور في الرؤية لدى الرئيس بوش الأب, إلا أنه يبدو أكثر حصافة, وأعمق رؤية لما يمكن أن يسفر عنه خوض حرب على العراق. فقد كتب بوش الأب مدافعا عن امتناعه من المضي في طريق غزو العراق عام 1991: ستجر علينا محاولة اقتلاع صدام حسين, خسائر باهظة, على الصعيدين السياسي والبشري. وفيما لو مضينا في ذلك الطريق, فمن المحتمل أن تواصل الولايات المتحدة وجودها بصفتها دولة محتلة, بغيضة, في أرض تغص بالكراهية لنا. وكما استشرف بوش الأب, فإن الولايات المتحدة اليوم, قوة غازية بغيضة في أرض تغص بالكراهية لأميركا. فما هما إلا عامان لا أكثر, وقد تمكن بوش الابن من قلب مشاعر التعاطف العالمي مع الأميركيين على إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر, إلى توجس ونفور, بل كراهية صريحة لنا. وبعد أن خاب حلمه ورؤيته, يجهد بوش الآن لدفن ركام الفوضى الذي خلفه بحربه على ال