قضية الإصلاح السياسي في العالم العربي من الموضوعات المكررة والغامضة والمحيرة، وكأنها حكاية من حكايات التراث الشعبي القديم، وخرافة ترويها الأجيال حتى صدقها البعض. فمع كل حدث أو أزمة أو مشكلة في المنطقة يبدأ المفكرون والكتاب والصحفيون الغربيون والعرب التحدث عن قرب الإصلاح السياسي أو تبني الديمقراطية أو المشاركة السياسية وبداية تطور مؤسسات المجتمع المدني وغيرها من المصطلحات الأكاديمية الغربية اللطيفة. ولذا بدأ العرب يحتفون بالصحفيين الغربيين أمثال توماس فريدمان وفريد زكريا، وهما كاتبان متخصصان في سب العرب، لذا تجدهما مدعوين في العديد من المؤتمرات العربية على الرغم من أن هذين الكاتبين دائماً يشخصان المشكلة في العالم العربي على أنها وليدة الأنظمة التسلطية والديكتاتورية. وفضلاً عن ذلك تجد هذين الكاتبين وأمثالهما يحضرون ويشاركون في مؤتمرات ترعاها الأنظمة نفسها؛ ويجدون من حفاوة الاستقبال ما يقربهم من الملوك والرؤساء، فهم يسكنون في أجنحة فخمة في فنادق من الدرجة الأولى الممتازة وتقدم لهم مآدب عشاء خيالية، ويستقبلهم زعماء هذه الدول ومسؤولوها؛ والله أعلم إن كانت هناك هدايا أو عطايا أو منح معينة تخفى عنا ولا نعرف طبيعتها. والسؤال الملح الآن: كيف يحدث ذلك؟ أي كيف يستخدم الصحفي الغربي حفاوة وكرم الأنظمة التي يدعي أنها تسلطية وديكتاتورية؟ وكيف تحتفي هذه الدول بهؤلاء الأقزام المتخصصين في سبها؟
نترك هذا الموضوع ونعود إلى مسألة الإصلاح السياسي التي يتحدث عنها العديد من الساسة والمفكرين في العالم العربي كثيراً، خاصة بعد الاحتلال الأميركي للعراق؟! فالمحتل الأميركي يعدُ الشعب العراقي بالديمقراطية والحرية والرخاء الاقتصادي، وأن النموذج الغربي للحكم سيكون المثل الأعلى الذي يجب أن تحتذي به الدول العربية، وهو بداية مرحلة التغيير والإصلاح الشامل في الشرق الأوسط. وهكذا بدأ الساسة والكتاب الأميركيون في كل يوم بالاعتداء بالسب والتجريح والقذف على دول عربية مثل المملكة العربية السعودية ومصر وسوريا وغيرها. ولا توجد دولة عربية محمية من هذا الهجوم مهما قدمت من خدمات كبيرة ومهمة للولايات المتحدة الأميركية.
والآن هل نحتاج إلى شخصية يهودية أميركية تافهة مثل توماس فريدمان أو شخصية هندية أميركية حصلت مؤخراً على الجنسية الأميركية، ولديها عقدة المجنس، لتعلمنا أننا نحتاج إلى إصلاح سياسي في العالم العربي؟ وهل يجب على الولايات المتحدة أن تحتل أو تهدد جميع الدول العربية حتى يتسنى لها أن تبدأ مرحلة الإصلاح السياسي، أم ينتظر البعض العنف والفوضى كوسيلة للتغيير السياسي؟
الحالة الغريبة هي أن الأنظمة السياسية في العالم العربي، وبالرغم من بعض المحاولات المضللة، لا تحاول أن تقدم أي تصور أو مشروع متكامل للإصلاح السياسي في المنطقة· أما الشعوب العربية ومفكروها وعلماؤها فمعظمهم منشغلون إما بطلب الرزق والعيش أو في ظلمات نظرية المؤامرة.
لذا فإننا نجد أن الفاعلين الأساسيين في عملية التغيير السياسي في العالم العربي غير مستعدين لبدء الخطوة الأولى للتغيير. فالولايات المتحدة كاذبة على الرغم مما تدعيه من أنها تحاول أن تضغط على الأنظمة السياسية العربية لتحويلها للديمقراطية، لأن الدعوة للإصلاح السياسي تتطلب سياسة أخلاقية، والدول لا تحدد سياستها انطلاقاً من مفاهيم أخلاقية، وإنما من المصالح.
إن علاقات الولايات المتحدة مع معظم الدول العربية، ومؤخراً الجماهيرية الليبية، (ولا أعرف الاسم الجديد لها الآن) علاقات متميزة، حيث تتسابق الدول العربية لتقديم الخدمات للولايات المتحدة من المغرب العربي إلى المشرق العربي. وتعرف الولايات المتحدة أن التيارات الدينية بكافة أشكالها ستحتل الصدارة في أي انتخابات حقيقية في الدول العربية، وهي لا ترغب في ذلك بالتأكيد، على الرغم من أنها تحالفت مع هذه التيارات لفترة طويلة، إلى أن خلقت منها عدواً لها قام بالاعتداء على أراضيها وقتل رعاياها في الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وبالنظر إلى هذه الحقائق، لماذا يتوقع البعض أن تدعو الولايات المتحدة إلى الديمقراطية أو الإصلاح السياسي وتنسى مصالحها؟ فالولايات المتحدة وعلى الرغم من ادعائها أنها دولة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي الصورة الدعائية التي تسعى لترويجها، فهي دولة تضع مصالحها أولاً وقبل أي شيء آخر من خلال مراعاة مصالح شركاتها ومؤسساتها ومنتجاتها ووارداتها خاصة النفطية، فلماذا إذاً دعاوى تغيير أنظمة سياسية حليفة لها؟ ولماذا تنسى مصالحها الخاصة من أجل الديمقراطية، في دول تعتقد أنها متخلفة وغير حضارية؟
أما الدول العربية فعلى الرغم من أنها تصغي للنداءات حول المشاركة السياسية والتغيير السياسي، فإنها تعلم تماماً أن الضغط الخارجي غير موجود، وأن شعوبها لا تحاول أن تضغط بجدية في هذا الاتجاه، فلماذا إذاً تقدم الدول العربية على خطوات تجاه دولة القانون والمشاركة السياسية والمحاسبة وحرية الكلمة؟ بالطبع هناك