في خطابه عن حالة الاتحاد يوم الثلاثاء الماضي، أطنب الرئيس بوش في الحديث عن موضوع أثير إلى قلبه وهو: مزايا حرية الاختيار، حيث قال:" إن الموظفين الشباب يجب أن يحصلوا على فرصة لتملك صناديق ادخار، وذلك من خلال توفير جزء من الضرائب المفروضة على ضمانهم الاجتماعي، وإيداعه في حساب تقاعد شخصي".
وأضاف بوش:" يجب أن نعمل على جعل نظام الضمان الاجتماعي مصدرا للملكية للشعب الأميركي". وقيمة حرية الاختيار غدت موضوعا من الموضوعات المتكررة في أحاديث الرئيس وأعضاء إدارته. فالمشاكل المتعلقة بالتعليم، والصحة، والرعاية الصحية، وغير ذلك.. يمكن معالجتها إلى حد كبير من خلال توسيع الخيارات المتاحة أمام الناس كما أكد الرئيس بوش ذلك في أكثر من خطاب.
ومنطق الرئيس بوش الأساسي في هذا الشأن واضح. فهو يرى أنه إذا ما آمن الناس بأنهم خير من يقرر أمور رفاهيتهم الشخصية، فإن إتاحة حرية الاختيار أمامهم، ستساهم في تعزيز الرخاء الجماعي، بدرجة تفوق بكثير ما يمكن أن يحققه برنامج حكومي عام مفروض على الجميع. ومن الحقائق المسلم بها في هذا السياق، أنه مهما كانت المزايا التي يمكن تحقيقها من خلال خصخصة الضمان الاجتماعي، فإن تخصيص التأمين الصحي للمسنين، وحرية التعليم للأطفال الأميركيين تحديدا له ميزة خاصة وهو أنه يتيح الفرصة للأفراد للسعي إلى تحقيق رفاهيتهم على النحو الذي يرونه مناسبا. فعلى رغم كل شيء فإن إضافة المزيد من الخيارات أمام الأشخاص لن يجعلهم أسوأ حالا، بل إن الاحتمال الأكبر هو أن يجعلهم أفضل.
ورغم أن ذلك المنطق قد يبدو مقنعا، فإن هناك دلائل متزايدة على أن المنطق العاطفي
(النفسي) قد يكون مشوبا بالخطأ إلى حد كبير. فما يحدث في الواقع هو أن الخيارات الإضافية – بالنسبة للكثيرين- يمكن أن تؤدي إلى تقليل درجة الرضا. فعندما تكون الخيارات المطروحة أكثر مما يفترض فإنها تؤدي إلى الشلل، وليس التحرير. وهاكم بعضا من الأدلة على ذلك: في دراسة قاما بإجرائها عام 2000 أثبت كل " شينا لينيجر"، و" مارك بيبر"، أستاذا علم النفس بجامعتي " كولومبيا" و" ستانفورد"، انه كلما ازدادت الخيارات المطروحة من أنواع المربي، وأصناف الشكولاته أمام المتسوقين، فإن احتمال قيام هؤلاء المتسوقين بمغادرة المتجر دون أن يقوموا بشراء مربى، أو شكولاته، يزداد أيضا.
·وفي دراسة اشترك فيها كاتب هذه السطور مع كل من " شينا لينيجر" و"راشيل إيلورك"، من جامعة كولومبيا، توصلنا إلى نتيجة مؤداها أنه كلما ازداد عدد فرص الوظائف المتاحة أمام خريجي الكليات، فإن درجة رضا هؤلاء الخريجين عن عملية البحث عن الوظيفة تقل. وهو ما ينطبق بشكل خاص على الخريجين الذين يسعون للحصول على "أفضل وظيفة ممكنة". فمثل هؤلاء الخريجين يبدون أقل رضا عن تلك العملية، من نظرائهم الذين يسعون للحصول على وظائف " مناسبة". في دراسة أخرى أجرتها " لينيجر" بمفردها تبين لها أنه كلما ازداد عدد" الصناديق الاستثمارية المشتركة" المقدمة للموظفين، فإن احتمال قيام هؤلاء الموظفين باختبار صندوق استثماري- من أي نوع- تنخفض.
وفي دراسة نشرت تفاصيلها عام 1992 في مجلة علم الأوبئة الإكلينيكية، تم سؤال عينة من الأفراد عما إذا ما كانوا يفضلون أن يكونوا مسؤولين عن خططهم العلاجية، إذا ما كانوا يعانون من مرض خطير مثل السرطان مثلا، أم أنهم يفضلون أن يتم ذلك من قبل السلطات الطبية ؟. بالنسبة للأفراد الذين لم يشتكوا من قبل من أي أمراض سرطانية كان الرد بالإيجاب. أما بالنسبة للذين عانوا من أمراض سرطانية في مرحلة من المراحل فقد رد 12 في المئة من عينة البحث على ذلك بالقول بأنهم يفضلون الإشراف على علاجهم بأنفسهم. في حالات مثل هذه، نجد أن تزايد عدد الخيارات المتاحة يتيح للناس عادة تحسين نوعية حياتهم، بشرط أن يقوموا ببعض الإجراءات الموضوعية مثل التأكد من نوعية المربى، أو معرفة نسبة العائد على الاستثمارات، أو مدى ملاءمة الوظيفة، وتناسبها مع الأهداف المهنية النهائية للشخص، وما إلى ذلك، ولكن تلك الخيارات – مع ذلك - قد تجعل حياة الناس أسوأ.
لذا فإن السؤال يجب أن يكون: عندما يتعلق الأمر بقيامنا بتحسين نوعية حياتنا ورفاهيتنا بشكل عام.. هل ما يجب أن يهمنا أكثر هو الاعتبارات الموضعية أم الاعتبارات الذاتية ؟ بالنسبة لي شخصيا فإنني اعتقد أنه كلما ارتفع مستوى حياة الناس فوق مستوى الكفاف، فإن الاعتبارات الذاتية هي التي تصبح أكثر أهمية، برغم أن تلك الاعتبارات قد لا تؤدي مع ذلك إلى تحسين نوعية الحياة.
الأمر ملتبس قليلا، ولكن ما يمكن لنا أن نقوله على سبيل التوضيح هو إن تخمة الخيارات المتاحة أمام الأميركيين، والتي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، لم تحقق لهم السعادة بل ربما قد أدت إلى زيادة معاناتهم. يتبين ذلك بشكل واضح من أحد التقارير التي أعدها "الاتحاد الطبي الأميركي، وقام بنشرها عام 2003 والذي جاء فيه :" إن عدد الأميركيين الذين يعالجون من الاكتئاب في العيادات النفسية، قد تضاعف ثلاث