يقال إن فلاحاً كان واقفاً على رصيف الميناء عندما أقلعت سفن "كريستوفر كولومبوس" في 3 أغسطس 1492. كان ذلك الفلاح يغمغم ويتمتم لنفسه قائلاً:" هذا تبديد أنيق خبيث لأموال المملكة. كأننا ينقصنا في بلادنا مشكلات فوق مشكلاتنا! لماذا يقوم صاحبا الجلالة الملكية بتمويل رحلة إلى المجهول؟!" لكن من حسن حظ إسبانيا أن تلك الآراء الجاهلة لم تتحقق لها أسباب السيادة، فلو تحقق لها ذلك لما كسبت إسبانيا إحدى أكثر الامبراطوريات إدراراً للأموال في التاريخ كله. لكن من سوء حظنا نحن الأميركيين أن مشاعر ذلك الفلاح خير مثال، على مايبدو، لوصف رد الفعل السائد الآن على رؤية الرئيس "بوش" المعنية باستعمار القمر وبزيارة المريخ، وهو ما قد يبرر عدم تطرقه إليها في خطاب حالة الاتحاد.
وهناك جوقة من المنتقدين المطالبين بالعزوف عن استكشاف العوالم الجديدة، وبالقيام بدلاً من ذلك بإتمام العالم الذي بين يدينا الآن. وأنا أيضاً أقف ضد البرنامج الفضائي إذا وجدت أن إلغاءه قد يضع حداً للفقر والجوع والمرض وحمى "معبود الجماهير الأميركي". لكن تلك المصائب والابتلاءات تلازمنا، باستثناء "معبود الجماهير الأميركي" الحديث العهد، وتقيم معنا منذ وقت لاترقى إليه الذاكرة، وإن وجودها معنا يفسد حجج تبرير استكشاف الفضاء ويبطلها، وهي حجج ذكروا منها إمكانية جني أرباح وعائدات التكنولوجيا، واستحداث احتياطات وقائية من تعرض كوكبنا للتدمير التام ومسحه عن وجه الكون، وكذلك احتمال اكتشاف حياة في مكان ما خارج كوكبنا(لا يقصدون بهذا اكتشاف رجال خضر أقزام).
تلك كلها أسباب وجيهة، لكنني أرى أن المبرر المنطقي الطاغي أبسط من ذلك وأقل تعقيداً، وهو ما لخصوه بعبارة "إنه شيء رائع نفعله". وأنا أدرك أننا لا ينقصنا أصلاً أن ننفق مقادير هائلة من الدولارات الآتية من جيوب دافعي الضرائب، لكي نفعل شيئاً رائعاً يسر الخاطر! على أن هناك بديلا لبيروقراطية "ناسا" الباهظة التكاليف والتي تفتقر إلى كفاءة الإنتاج إلى أبعد حد.
ويعتقد معظم الخبراء أن السفر إلى المريخ، لو بقي في عهدة وكالة "ناسا" وبين أيديها، سوف يكلفنا مئات المليارات من الدولارات. وقد اقترح "روبرت زوبرن"- وهو مهندس طيران والفضاء الذي يحظى بالاحترام، ومؤسس "جمعية المريخ"- أن تقوم الحكومة الأميركية- كبديل عن مشاريعها هذه بعرض تقديم جائزة تساوي تقريباً 20 مليار دولار أميركي- وهو مبلغ أقل من 1% من الميزانية الفيدرالية الأميركية، أو ما يعادل حجم ما ننفقه سنوياً على المساعدات الزراعية- إلى الجهة التي تنجح في القيام بأول رحلة كاملة إلى المريخ بين ذهاب وإياب.
وقد شكل هذا النوع من المنافسات في الماضي طريقة شائعة لتشجيع الناس على تحقيق الاكتشافات؛ ومن المعلوم أن جهاز "الكرونومتر"(أي مقياس الزمن بدقة بالغة) أتى كثمرة اختراع في القرن 18 بدافع الفوز بجائزة بريطانية قدرها 20 ألف جنيه استرليني وذلك بهدف إيجاد طريقة لقياس خطوط الطول في البحر. وهناك اليوم شركات طيران وفضاء كثيرة يمكنها أن تنهض إلى مستوى ذلك التحدي؛ وإذا لم تنهض فلا بأس، لأننا لن نخسر شيئاً إذا قعدت.
لكن هناك مقالة بقلم "جون تيرني" نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" على صفحات أحد أعدادها عام 1999، وكانت بعنوان "كيف تصل إلى المريخ وتجني ملايين الدولارات؟". وقد قطع "تيرني" خطوة إضافية أبعد حين اقترح في مقالته أن الجهة التي تقوم بالمهمة التي تنجح في الوصول إلى المريخ يمكنها أن تخفف عن نفسها قدراً كبيراً من تكاليف المهمة من خلال الصفقات التي تعقدها مع الجهات التجارية الراعية. وكتب "تيرني" يقول:"إن دورة الألعاب الأولمبية حدث إعلامي يدوم لثلاثة أسابيع، ويولد في الوقت الراهن مبلغ 2 مليار دولار تقريباً من خلال التلفزيون والصفقات التسويقية. وإذا جرى إعداد صفقة ملائمة، فإن من الممكن لمهرجان الرحلة إلى المريخ الذي يدوم ثلاث سنوات أن يحقق مبالغ أكبر بكثير من ذلك."
لكن إمكانيات تحقق ذلك مدهشة وتفوق التصور وما في هذا العالم من صفقات، إذا جاز لي التعبير. وسيكون هناك مثلاً حبوب مريخية (لطعام الإفطار)، وموسيقى مريخية، ومسابقات رقص مريخية! وهكذا سيحدث المهرجان الأضخم, وسيكون ذلك واقعاً وحقيقة يمكن استخدامها في إنتاج مسلسل من مسلسلات "تلفزيون الواقع." وإذا كانت ملايين من البشر تتهيأ وتهيئ أجهزة التلفزيون للتفرج على مجموعة من الأشخاص العالقين على جزيرة صحراوية بعد أن تقطعت بهم السُّبل، فاحسبوا معي كم سيكون عدد البشر الذين سيتفرجون على مجموعة من الأشخاص العالقين على كوكب آخر؟! كم؟
وسيكون التحدي الحقيقي الوحيد هنا هو ابتكار طريقة لإدخال صبية حسناء مثيرة، لا يستر جسمها سوى قطعتي "المايوه البكيني" إياه، إلى داخل سفينة الفضاء. لكنني أثق تماماً بأن "مارك بيرنيت" العبقري الذي يقف وراء نجاح مسلسل Survivor(الناجي) سوف يهب لأداء تلك المهمة. وربما يكون في وسعه أن يدمج مسلسل "مهمة إلى المريخ" بأحدث برنامج له يحمل عنوان "المبتد