في كل عام تقريبا, يزور الأطباء في الولايات المتحدة الأميركية حوالي 200 ألف مريض, يطلبون المساعدة في تخفيف معاناتهم ومشاكلهم مع حاستي الشم أو الذوق. تلك هي الإحصاءات المقدمة من معاهد الصحة القومية. إلا أن دراسة مثل هذه الحالات لا تزال في مرحلة البدايات, وكثيرا ما يصعب على كل من المرضى والأطباء معرفة الأعراض المرضية لمثل هذه الاضطرابات. وعادة ما تتكرر إصابة المريض بأعراض والتهابات فيروسية في الجهاز التنفسي, قبل فقدانه لحاسة الذوق أو الشم, أو الحاستين معا. وفي وسع الإصابة المتكررة بنزلات البرد, إتلاف أعصاب الذوق والشم في اللسان والأنف. وفيما لو فقد المريض أيا من الحاستين أو كلتيهما, فإنه لا تتوفر حتى الآن علاجات قادرة على استعادة هاتين الحاستين. إلا أن جزءا منها أو جلها, ربما يعود تلقائيا بمرور الوقت. هذا هو ما تؤكده ليندا بارتوشوك التي تعمل في مجال أبحاث اضطرابات الذوق وآلام الفم في كلية الطب التابعة لجامعة ييل. فمن حسن الحظ أن هاتين الحاستين, قابلتان للاسترداد في معظم الحالات, نظرا للمعافاة الطبيعية التي تحدث للأعصاب المختصة بها. ومع أن تعافي هذه الأعصاب قد يستغرق بضع سنوات عند بعض المرضى, إلا أنه يحدث بسرعة هائلة لدى البعض الآخر.
ولكن غياب العلاجات للحالات نفسها حتى الآن, لا يعني أن مسبباتها ليست قابلة للعلاج هي الأخرى. ومن مسبباتها القابلة للعلاج, الفطريات الفمية, أورام الأغشية المخاطية وأورام الأنف بوجه عام. وقد تسببها أحيانا الاضطرابات العصبية, كما هو الحال في مرض الزهايمار والشلل الرعاش, أو ما يعرف بمرض باركنسون. وقد تنجم الحالة عن أمراض واضطرابات غددية, كما هو الحال في مرض السكر, أو قد تحدث نتيجة لأمراض الشيخوخة, أو التعرض للمواد الكيماوية السامة وغيرها. صحيح أن العيادات المختصة بأمراض الأنف والأذن والحنجرة, لا تستطيع علاج كل الحالات, إلا أنها تستطيع تقديم إجابات على أسئلة المرضى, ومساعدتهم على نحو ما.
كما يقول لورانس سافوي, الباحث المساعد في عيادة " أوكون" فإن المرضى عادة ما يأتون للشكوى من شعورهم بعدم الارتياح لمذاق الطعام أو رائحته. فهو ليس شيئا أفضل في ألسنتهم أو أنوفهم من طعم الكرتون ورائحته. ولما كانت العيادة التي يعمل فيها هذا الباحث, هي المحطة الأولى لكل العابرين إلى عيادة " فارمنتجتون" التخصصية, فإنه يجري عليهم أول الاختبارات الخاصة بتحديد الأعراض التي يشتكون منها. وتعد كحول البيتول هي الأساس الذي تقوم عليه الاختبارات الأولية هذه. فالطبيعي أن تشبه رائحة الكحول المذكورة رائحة البيض الفاسد بالنسبة للأنف الطبيعي المعافى. والذي يحدث في هذا الاختبار هو أن سافوي يطلب من المريض أن يسد إحدى فتحتى الأنف, بينما يمرر أمامه زجاجة بلاستيكية تحتوي على ماء عادي. ثم يلي ذلك تمرير زجاجة أخرى عبئت بأضعف تركيز ممكن لكحول البيتول تحت أنف المريض. ويتم تكرار هذا الاختبار لفتحتي الأنف مرارا, بحيث يتم تركيز الكحول في كل مرة يعاد فيها الاختبار. وفي كل مرة, تسجل فيها الدرجات التي يحرزها المريض في الاختبار, وهي درجات تحدد ما إذا كانت الأعراض تشير إلى نقص جزئي في حاسة الشم, أم أنه يعاني من فقد كلي لها.
أما بالنسبة لاختبار حاسة الذوق, فتطلب من المرضى المضمضة بمحاليل تعطى لهم. ولهذه المحاليل أربعة أذواق, إما مالحة أو حلوة أو مرة أو حامضة. فهذه هي الأذواق الأربعة التي تمت برمجة اللسان عليها ويستطيع التقاطها عادة. وفي هذا الاختبار يتم تسجيل استجابات المرضى وتحليلها إلكترونيا, بغية تحديد مدى حجم المشكلة التي يواجهها المريض في حاسة الذوق, إضافة لتحديد المواضع المعينة من اللسان التي تظهر فيها هذه المشكلات.
غير أن الجانب الأكثر خدعة في الاختبار, هو تحديد أين تكمن المشكلة على وجه التحديد, في الأنف أم اللسان؟ فلا بد للاثنين من أن يعملا معا, كي يحددا درجات الفرق وتفاصيل عملية التذوق والشعور بنكهة الطعام والمشروبات. وما لم يحدث هذا التناغم في عمل الاثنين, فإنه لن يشعر الشخص بأي فارق بين طعم القهوة والشكولاتة مثلا. وعليه فإن تمييز ما نسميه بالنكهة, لا يتحقق إلا باكتمال كافة هذه العناصر مجتمعة: الذوق, الشعور بالألم, تكوين الأشياء, ملمسها ودرجة حرارتها. وهذه عناصر جميعها يلتقطها اللسان, ويستشعرها.
ومن رأي بارتوشوك أن الارتباط المعقد بين اللسان والدماغ قد حدث نتيجة لعملية تكيف تطوري, كانت ضرورية من أجل بقاء النوع الحيواني. فاللسان يلتقط مؤشرات الموت والحياة معا. فالطعم المر هو مؤشر للسموم, والمالح, يعمل كمنبه لتنظيم تناول الجسم للصوديوم. أما الطعم الحلو فإنه يؤشر لضرورة تناول السكريات من أجل تزويد الجسم بما يلزمه من طاقة. ضمن ذلك يؤدي الشعور بالحموضة مهمة تنبيه الجسم لخطر الأحماض. ومن رأيها أيضا أن لأعصاب الشم دورا كبيرا في التمتع بنكهة الطعام والشراب. ثم إن للدماغ- والحديث لا يزال لبارتوشوك- نظاما داعما يمكنه من تمرير الشعور ال