كم منا يدرك أن للفلفل دورا في سقوط الإمبراطورية الرومانية القديمة؟ ومن أين جاء اسم الديك الرومي, وما علاقة القرفة باكتشاف أميركا كقارة؟ تلك هي بعض الأسرار التي كشف عنها كتاب المؤلف تانهيل راي, الصادر في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي تحت عنوان" الغذاء في التاريخ". فقد كان الكتاب المذكور, بمثابة مسح شامل لتاريخ الغذاء منذ فترة ما قبل التاريخ, وحتى العصر الذي صدر فيه الكتاب. ومن شاكلة هذه الكتب كانت مطبعة جامعة أوكسفورد قد أصدرت مرجعها الشهير: The Oxford Companion to Food وهو الكتاب الذي يعد مرجعا في تاريخ الغذاء ومفردات المطبخ العالمي وأدواته والأصناف التي تعد فيه. اليوم نستعرض استعراضا سريعا واحدا من هذه المؤلفات تحت عنوان: " تاريخ الغذاء" وهو من تأليف الصحفية والباحثة الاجتماعية الفرنسية ماجيلون توسان ساما, وترجمة أنتي بيل للغة الإنجليزية.
كانت النسخة الأصلية للكتاب قد صدرت في منتصف عقد التسعينيات, إلا أنها صدرت في طبعتها وترجمتها الحديثة, في أواخر العام الماضي. وكما نتوقع فإن أي كتابة عن تاريخ الغذاء, لا بد من أن تكون متابعة لمراحل تطور الغذاء في مختلف الثقافات والحضارات والحقب والعصور. وهذا هو ما تفعله الكاتبة من خلال تتبعها للحقب والمراحل المختلفة.
غير أن الكتاب يذهب لمدى أبعد في التحليل, ليناقش جوانب أخرى من أهمها, التحول الذي حدث في العادات الغذائية للمجتمع البشري من مراحل الجمع والتقاط الثمار, إلى مجتمعات تدجين الماشية والصيد, وما صاحبها من تحول جذري في النمط الغذائي نفسه- من الخضراوات والفاكهة إلى الوجبة الغذائية القائمة بشكل رئيسي على اللحوم- ومن ثم أعطت المؤلفة اهتماما خاصا لدراسة تأثير النوع المعين من الغذاء على حياة المجتمع والسلوك الاجتماعي. ضمن ذلك درست الكاتبة العلاقة المتبادلة بين العادات الغذائية وطرائق طهي الطعام في مختلف الثقافات. صحيح أن الكاتبة, وبحكم انتمائها للثقافة الفرنسية, قد أولت أوروبا- بل تحديدا فرنسا- اهتماما خاصا يخل بتوازن الكتاب نوعا ما, من حيث تناوله للبعد الحضاري والثقافي للغذاء, وتغطيته لموضوع يتطلب التنوع بحكم طبيعته. إلا أن ذلك لا يقلل كثيرا من الاهتمام الذي حظيت به ثقافات ومطابخ مختلف الحضارات الإنسانية خلال رحلة الثمانمائة صفحة التي نقطعها أثناء قراءتنا للكتاب.
من ذلك مثلا نطالع في الحديث عن الأهمية التاريخية للغذاء, أصناف المأكولات ومكوناتها وطرق طهيها إلى آخره. وبين هذا وذاك نقرأ الكثير من التحليل والملاحظات حول الأساطير والشعائر الدينية والاجتماعية التي أحاطت بهذه المأكولات. وتبدأ الكاتبة هذه الملاحظات منذ العصور الباكرة في فجر الحضارة الإنسانية. وهي المرحلة التي شهدت التحول من مجتمع الجمع والتقاط الثمار, وحتى نشوء المجتمع الرعوي. وكما نعلم فإن الكثير من الدارسين يردون نشأة أنواع معينة من الفنون إلى هذه المرحلة, نظرا لما ارتبط بها من طقوس وشعائر اجتماعية, أسهمت في تعزيز حاسة المحاكاة وتقليد الحيوانات التي يتم صيدها وافتراسها بواسطة الإنسان اللاحم إن جاز التعبير. فقد كان الإنسان عاشبا في مرحلة ما, ثم تحول إلى كائن لاحم في طور آخر. بهذا المعنى يكون الكتاب مزيجا من التاريخ الاجتماعي والتاريخ الطبيعي في آن.
وضمن استعراضه لمراحل تطور المطبخ الحديث, اهتم الكتاب بتقديم إجابات حول الكيفية التي تتناول بها المجتمعات في مختلف الحقب والحضارات طعامها, فضلا عن الإجابة على الأسئلة والأسباب التي تدعو مجتمعا معينا لتناول نوع معين من الطعام في مرحلة ما من مراحل التاريخ, أو في بيئة ما. ولكن عاب البعض على الكتاب استغراقه في جانب الدراسة السوسيولوجية التاريخية لتطور الغذاء, أكثر من اهتمامه بدراسة تقنيات وأساليب تطور المطبخ الحديث. وأبدى بعض القراء ضجرهم من غلبة منهج التحليل على المنهج الوصفي فيه. غير أن مثل هذا الضجر, يعبر عن الموقف الذي نقرأ منه الكتاب, وما نبتغيه منه كقراء لنا اهتمام بهذه الجوانب الثقافية والاجتماعية من حياة الحضارات والشعوب. وإن كان الكتاب قد عد من كلاسيكيات وأمهات الكتب العالمية التي تتناول هذا الجانب من تاريخ الحضارات, فمن المؤكد أن لذلك مقوماته وأسسه الراسخة في متن الكتاب نفسه, وجودة مستوى البحث والتحليل الاجتماعي الذي بذل فيه. وهذا هو ما دفع بعض كبرى دور النشر والصحف لوصفه بأنه مرجع لا غنى عنه, لكل دارس مجد في علوم التغذية, ولكل ممارس وهاو لفن الطهي وثقافته.
هنا أيضا تفاجئنا الكاتبة بمعلومات جديدة من عينة تلك التي سبقت الإشارة لها في صدر هذا العرض. وعلى لسانها نسأل: هل للملح أي دور آخر, بعيدا عن مائدة الطعام؟ هل نحزر من أين استمدت مدينة سولتزبيرج اسمها؟ وللعلم فإن الاسم نفسه يعبر عن مجموعة قانونية شهيرة في بنسلفانيا الأميركية وعن دار متخصصة في نشر الكتب القانونية. من أين جاء الاسم؟ ما هي أصناف الغذاء الثلاثة التي عدها موسى عليه السلام, الأنواع التي تؤد