ولنتذكر كماقلنا في مقالتنا السابقة أن التقرير الأممي الأول كان جديراً بالاحتفالية الإعلامية التي صاحبته، والتي جعلت الكثيرين منا ينتظر التقرير الثاني بلهفة شديدة. أوفى التقرير الثاني بوعده في اختيار موضوع محدد للتركيز عليه بعد إعطاء الصورة العامة في التقرير الأول. وكان موضوع التقرير الثاني الذي بين أيدينا الآن هو "نحو إقامة مجتمع المعرفة".· التقرير الثاني يفرض علينا واجب النظر إلى أنفسنا بطريقة نقدية، وهذه شجاعة كبيرة في تقاريرنا وتقارير الأمم المتحدة عن المنطقة، وهي في الواقع أولى الخطوات الجادة للإصلاح، فالتشخيص السليم والصريح للداء هو أقصر وأنجع الطرق لإيجاد الدواء ووقف انتشار واستفحال الداء. ومع كل هذه الانجازات من هذه الكوكبة المتميزة من الصفوة العلمية العربية، فإن الاحترام لجهودها يفرض علينا التحلي بالنظرة الموضوعية والنقد البناء، حتى تكون التقارير القادمة أكثر فائدة واكتمالاً. وأول فجوات هذا التقرير أنه بالرغم من شموليته وتعرضه لجوانب مهمة من الحياة الاجتماعية، إلا أنه يقترب أكثر من الكتاب منه للمسح العام لواقعنا المعرفي، فهو يكرر الكلام عن ضآلة مجتمعنا المعرفي، وهو كلام معروف وينطبق على أجزاء كثيرة من دول العالم الثالث. ولكن أين هي عمليات الجرد العلمية التي تبين لنا هذا الكلام في المنطقة العربية؟ وإذا كانت منظمة مثل برنامج الأمم المتحدة للتمنية وكوكبة من العقول العربية الفذة التي قامت بإعداد هذا التقرير، إذا كانت كل هذه الموارد المالية والبشرية والمعرفية لا تقدم لنا هذا المسح العام الذي نحن في أشد الحاجة إليه، فإلى أين وإلى من نتجه للحصول على هذا المسح؟!
فمثلاً بعد قراءتي للتقرير لم أعرف بعد ما عدد المراكز البحثية في منطقتنا؟ ما هي فاعليتها؟ وما هي أولوياتها العلمية؟ ما هي شبكة اتصالاتها في الداخل والخارج؟ ما هو عدد العاملين بها وتكوينهم ومهاراتهم؟ هل هناك منهجية محددة تلتزم بها هذه المراكز العلمية؟ وهل هي المنهجية الملائمة؟ هل هناك عندنا بنوك للتفكير ؟وما هو تأثيرها في صنع السياسات العامة واتخاذ القرار... إلخ؟ لم يحاول التقرير مثلاً أن يرى ما فعلته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا Escwa -وهي قريبة في بيروت- في هذا المجال المسحي ثم مواصلة الطريق من حيث انتهى هذا المسح. بدلاً من هذه البيانات المحددة التي نحن في أشد الحاجة إليها، ارتكز التقرير على أحكام معقولة ومتوازنة، ولكنها تعتبر تحصيل حاصل في كثير من الأحيان ومُفرطة في عموميتها، كالإشارة إلى الكواكبي مثلاً والاستبداد العربي، ويرتبط بهذا القصور العام، قصور منهجي خطير فيما يتعلق ببعض المفاهيم الأساسية التي يرتكز عليها التقرير. فبرغم أن التقرير قام بجهد محمود فعلاً في ربطه بين المعرفة والتراث, وتميز أيضاً بشجاعة هائلة نحتاج إليها في التأكيد على أهمية تعريب العلوم وتدريسها. إلا أن مفهوم الأساس عن مجتمع المعرفة لم يضف جديداً لما نعرفه، وكان حرياً به مثلاً أن يعالج العلاقة بين مجتمع المعرفة والأصولية الدينية بطريقة مقارنة. فمثلاً كان عليه أن يشرح كيف أن المجتمع الأميركي هو للكثيرين نموذج مجتمع المعرفة، ومع ذلك يمتلئ حالياً بالجماعات الأصولية ويسيطر على كثير من مراكز الأبحاث المحافظون الجدد ذوو الأصول والتوجهات المسيحية-الصهيونية، كما أن رئيسه -جورج بوش- ونائب الرئيس -ديك تشيني- يستغلان كل مناسبة تقريباً لتأكيد توجهاتهما الدينية-الأصولية.
ويتضح هذا القصور المنهجي الأساسي بالنسبة لركيزة أخرى في هذا التقرير: وهو مفهوم رأس المال المعرفي، فليس هناك مؤشرات محددة مثلاً لقياس رأس المال هذا والتعرف عليه.
ويستشري هذا القصور إلى ركيزة هذا التقرير ألا وهو الأساس الذي يقوم عليه مجتمع المعرفة. فطبقاً للتقارير يتمثل هذا الأساس في الحرية والسياق السياسي. فيقول التقرير في ص 145 من النص العربي: "السياسة هي الإطار المرجعي الأخير، ولعله الأبعد أثراً في تحليل محددات اكتساب المعرفة في البلدان العربية... فحيوية منظومة المعرفة رهن بشروط سياسية في كل مجتمع...".
ومع ذلك يبقى هذا الجزء المهم عن الركن الأساسي لمجتمع المعرفة في منتهى العمومية، ولا يستفيد البتة من الأبحاث الحديثة عن مؤشرات التحول الديمقراطي أو قياس الحرية، المشاركة السياسية، أو تداول السلطة. وحتى لم يشر التقرير إلى الدوريات المتخصصة في علم السياسة والتي عالجت مثل هذه الموضوعات. ولم يشر كذلك إلى بعض البحوث العربية التي قدمت بيانات عن الانتخابات مثلاً أو الأجهزة التشريعية وفاعليتها من عدمه. بل لم يتم القيام ببديهية في هذا المجال وهو تنصيف الدول العربية من حيث درجات التحول الديمقراطي، وبالتالي فإن الانطباع السائد هو أن لبنان أو المغرب في سلة واحدة مع اليمن أو ليبيا على أنهم "عرب". والنتيجة أن التقرير أخفق في إثراء المناقشة العلمية عن عملية التلازم التي ينادي بها بين غياب الديمقراطية وضعف مجتمع المعرفة.
هناك كلام كثير ي