كثيراً ما نتحدث عن الثوابت العربية دون تحديد واضح للدلالة الفكرية والسياسية للمصطلح، فما المقصود بالثوابت، أثمة اتفاق بين الدول العربية على توصيف مشترك لها أم أن ما هو من الثوابت في قطر ما، هو متحول وقابل للتغيير في قطر آخر؟
لقد أطلق العرب في القرن العشرين جملة من الشعارات والمبادىء والنظريات التي بدت من الثوابت في بعض الأقطار، مثل الاشتراكية والعلمانية والجماهيرية والديمقراطية الشعبية والكفاح المسلح، بينما وجدت أقطار أخرى ثوابت مختلفة تعلي شأن قيم دينية أو تاريخية أو ليبرالية أو رأسمالية، لكن العرب اتفقوا في الظاهر على ثابت واحد يتجاوز اختلافاتهم، وهو قضية فلسطين، وقد سمتها الأدبيات العربية القضية المركزية أو المحورية، حتى باتت القضية ليست بحاجة إلى توصيف. وكانت الدول العربية تقيم علاقاتها مع دول العالم بحسب موقفها من القضية، مما جعل دولاً مهمة في العالم تحجم عن الاعتراف بإسرائيل لأنه سيعني خسارة فورية لعلاقاتها مع العرب، ولكن هذه الثوابت (ولاسيما التي أطلقتها قمة الخرطوم بلاءاتها الشهيرة) سرعان ما تعرضت لاهتزازات عنيفة وبدت قابلة للتغيير الذي تفرضه الضرورات (التي تبيح المحظورات) مما يدعو إلى تأمل نظرية الثوابت جملة، وفحصها على ضوء المتغيرات الراهنة التي تكاد تطيح بثوابت العالم كله.
ويكمن الخطر الأكبر على الأمة أن يتعرض الثابتان الرئيسان فيها إلى اهتزاز، وهما العروبة والإسلام, وقد تصاعدت محاولات هدمهما.
ويقتضي الإيمان بثابت الانتماء إلى العروبة محافظة على جوهرها اللغوي الحضاري، وهو ما سعت إليه حركات القومية العربية منذ أواسط القرن التاسع عشر حين أفاق العرب على حقيقة كونهم خرجوا من التاريخ منذ أن سقطت بغداد على يد المغول، وسقوط بغداد الراهن يدعو العرب إلى تأمل ما حدث في التاريخ، لقد مهد لذاك السقوط عاملان داخلي وخارجي، فأما العامل الداخلي فهو الضعف الذي تسلل إلى العرش العربي الحاكم منذ أواخر المرحلة الثانية من العهد العباسي، مع تنامي وتصاعد حركة القوميات غير العربية (وهو ما عرف بالشعوبية) التي نشطت لاسترداد حضورها القومي والعرقي.
وأما العامل الخارجي فهو تحالف معاد للأمة العربية والإسلامية معاً، في اجتياح من الشرق والغرب يهدف إلى القضاء على الإسلام. والمفارقة أن العامل الخارجي أسقط فاعلية العامل الداخلي، وحوله من عنصر ضعف إلى عنصر قوة، حين اضطر العرب إلى التنازل عن ثابت العروبة لصالح ثابت الإسلام بوصفه الجامع للقوميات والإثنيات التي كانت تتصارع داخله، وأحسب أنه لم يغب عن بال العرب أن التخلي عن ثابت العروبة سيخرجهم من التاريخ قروناً طويلة، ولكنهم قالوا قديماً (مكره أخاك لا بطل) وقد خرجوا من التاريخ حقاً بوصفهم عرباً بهدف أن يعودوا إليه بوصفهم مسلمين، وهكذا تمكن صلاح الدين (الأيوبي الكردي القومية) من أن يجمع قوى الأمة وأن يحقق النصر الكبير في معركة حطين وحين انهارت الدولة الأيوبية، توالى على الحكم قادة من جنسيات مختلفة، حتى اعتلت عرش مصر امرأة جارية مملوكة يقال إنها من البلقان، لم تكن تعرف حتى اسمها الحقيقي، فقد اشتهرت بلقبها (شجرة الدر) وكانت حكيمة وقوية واستطاعت أن تحارب الصليبيين، ولكن حظها العاثر أوصلها إلى نهاية مأسوية، وتوالت الانهيارات حتى قادت إلى عرش السلطة الفارغ في مصر شاباً ( يقال إن أصله من خوارزم) هو المظفر قطز، الذي حقق النصر في عين جالوت، وقد قتله شريكه في النصر الظاهر بيبرس (الذي يقال إن أصله من روسيا). أعاد الظاهر بناء الدولة، ولكنه شعر بالحرج لغياب الشرعية العربية، فأقام رمزاً للخلافة العربية في بغداد ،حين استقدم رجلاً من سلالة العباسيين هو (أبو العباس أحمد) وسماه الحاكم بأمر الله، وقد اكتفى الحاكم العربي بأن يدعى له على المنابر.
ولم يجد العرب أي حرج في التغني ببطولات يوسف بن تاشفين ونور الدين وصلاح الدين وشجرة الدر وقطز وبيبرس وسواهم من كبار القادة المسلمين الذين تحتفى بهم الذاكرة العربية، لأن الإسلام موحد, ولأن العرب كانوا عدة الجيوش المقاتلة مع القوميات التي تدين بدين العرب.
ولكن العرب شعروا بالحرج حين وصل الأمر إلى مماليك مماليكهم الذين تحالف بعضهم مع المغول، وبعضهم مع الصليبيين، ثم دخل العرب الغيبوبة الكبرى بعد أن سقطت دولة المماليك لتنهض دولة العثمانيين الذين أقاموا دولة الإسلام، ولكنهم أدخلوا العروبة في غياهب النسيان.
ولولا أن الدولة العثمانية انهارت أواخر القرن التاسع عشر لما حظي العرب بفرصة العودة إلى التاريخ، وحين واتتهم الفرصة بدأوا يستعيدون الذاكرة التي بقيت قوية بفضل القرآن الكريم الذي حفظ اللغة، وبدأوا يبحثون عن حق تاريخي بوجودهم كأمة تكونت قبل الإسلام، وكان لها حضورها الذي أهلها لأن يختارها الله لحمل رسالته الأخيرة إلى البشر.
ولم يكن البحث عن الرابط القومي ترفاً فكرياً، وإنما كان حاجة سياسية ماسة لإيجاد عقد اجتماعي بين المنتمين إلى العروبة يشكل أول الثوابت التي لا