القراءة الفلسفية الدقيقة في معاني الحج ومقاصده في حياة المسلم والمجتمع الإسلامي تجعلنا نستشعر عظمة هذه الشعيرة باعتبارها فرصة سنوية عظيمة يمكن من خلالها أن يتغير حال المسلمين وتتبدل أحوالهم من مرحلة الضعف والتمزق التي يعيشونها الآن إلى مرحلة القوة والوحدة والترابط الوثيق بينهم ويتحقق للأمة الإسلامية والفرد المسلم الخير الكثير على أساس أن الحج هو المدرسة الإيمانية الكبيرة للمسلمين والتي من المفترض أن يتزود الجميع منها بالطاقة الروحية والإيمانية ويجددوا حياتهم فيها ويتعلم الفرد المسلم منها كيف يوثق علاقته بربه وكيف يربي نفسه على مكارم الأخلاق وكيف يطهرها ويغيرها ويشحن ذاته بقوة الإرادة ويقظة الضمير وحس الإدراك أن الحج هو الجامعة الإسلامية التي تجمع شمل المسلمين في كل سنة... لذلك فإن المسلمين اليوم مطالبون بأن يستغلوا هذه الفرصة العظيمة وأن يجعلوا من مناسكها قاعدة شرعية أساسية ليقظة الأمة الإسلامية وتغذية روحها وقوتها وحركتها بين الأمم بشرط أن يقرأوا هذه المناسك قراءة دقيقة وجيدة حتى لا تتحول هذه الرحلة المقدسة إلى مجرد نزهة سياحية يرجع بعدها الحاج كما ذهب يحقد على هذا ويأكل مال هذا ويظلم هذا ويسفك الدماء يغش ويخدع ويتآمر ويخون ويأكل الربا ويكذب ويسرق ويشرب الخمر ويزني ويمشي بالنميمة... ويحث على الفتنة... إلخ.
الحج المبرور والمقبول معناه أن يقلع الإنسان عن كل هذه المظاهر السلوكية الهدامة، أن يندم ويتأثر ويخشع ويتغير ويلتزم فيه حياته بالطريق المستقيم.. إن المسلم اليوم بحاجة إلى "ثقافة فقه المكان" وفقه المكان هي العبارة التي أطلقها د. محمد عمارة... بمعنى أن يستشعر مناسك الحج خطوة خطوة، أن يقرأ كل رموز المكان قراءة روحية وإيمانية وعقائدية وفقهية وتاريخية صحيحة. فمثلاً: إذا خرج من بلده قاصداً الحج يتذكر الخروج من الدنيا والفناء وإذا لبس الإحرام يتذكر التجرد والكفن وإذا دخل المسجد الحرام يستحضر رهبة المكان وإذا طاف بالكعبة يستشعر أنه يطوف حول أول بيت وضع للناس في الأرض وأول مكان عُبد الله فيه ويتذكر ما رواه ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُنزل الله كل يوم على حجاج بيته الحرام عشرين ومائة رحمة ستين للطائفين وأربعين للمصلين وعشرين للناظرين...". وعند الحجر الأسود يتذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك...". وعند باب الملتزم يدرك أن الله قد يغفر له بصدق توبته وهو يسعى بين الصفا والمروة يتذكر موقف أمنا هاجر وكفة الحسنات والسيئات وعندما يشرب من ماء زمزم يتذكر البئر التي انفجرت تحت أقدام سيدنا اسماعيل وفرحة أمنا هاجر بهذا الماء ودعوة سيدنا إبراهيم "ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم...". وفي عرفات يتذكر اجتماع الخلق ويوم القيامة والناس بعثوا من جديد يدعو ويستغفر ويلبي ويبكي ويندم على ما فات ويردد أفضل ما قاله الرسول صلى الله عليه والنبيون من قبله: "لا إله إلا الله..." في كل لحظة ويتصور أنه يسمع الرسول في حجة الوداع وهو يقول: "أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا... أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا إن كل مسلم أخ للمسلم إن المسلمين أخوة فلا يحل لإمرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب منه فلا تظلمن أنفسكم إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع دماء الجاهلية موضوعة وربا الجاهلية موضوعة... أيها الناس استوصوا بالنساء خيراً وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله...". وكلما مر في مكان يستشعر روح وفقه المكان، هنا نزل القرآن على الرسول، هنا عقدت الجمعية التأسيسية للدولة الإسلامية الأولى، هنا انتصر الرسول على الكفار، يعيش كل لحظة وكأنه يعيش عصر الرسول وإذا صلى يتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقول أبوبكر رضي الله عنه: "لست تاركاً شيئاً كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا وعملت به إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ...". وصدقوني سوف يعود الإنسان المسلم من الحج وهو إنسان جديد قوي، إنسان قادر على أن يعيد لأمته الإسلامية مجدها العظيم.