تشهد الدوائر الجامعية في إسرائيل منذ التاسع من يناير جدلاً متصاعداً حول الانقلاب الذي حدث في موقف الدكتور بني موريس أشهر المؤرخين الجدد في إسرائيل وقذف به من خندق المؤرخ الكاشف عن جرائم الجيوش الصهيونية ضد العرب خلال حرب 1948 بهدف إرغامهم على الهجرة والرحيل إلى خندق المؤرخ الذي يرى أن تلك الجرائم كانت ضرورة تاريخية لتمكين اليهود من إقامة دولتهم والذي يفضل لو أن بن جوريون كان قد أكمل مهمة طرد العرب عام 1948 لتفرغ الأرض لليهود ولتعيش دولتهم في سلام.
هذا الانقلاب في موقف دكتور بني موريس حدث عندما أدلى بحوار لصحيفة "هاآرتس" نشر في التاسع من يناير وراح يبين فيه أن كتابه السابق "خلق مشكلة اللاجئين" والذي كشف عن وجود خطة مركزية في القيادة الصهيونية للقيام بسلسلة من المذابح وجرائم الحرب ضد سكان القرى الفلسطينية عام 1948 قد فهمه النقاد بشكل خاطئ, مؤكداً أنه لم يقصد من ذلك الكتاب أن يدين الصهيونية كما فهم من قرأ الكتاب في جميع أنحاء العالم. ونظراً للدلالة الخطيرة لهذا الانقلاب الفكري ليس فقط فيما يتعلق بتبرير جرائم صهيونية سابقة بل فيما يتصل بالتمهيد لجرائم مستقبلية تتمثل في طرد العرب وتنفيذ رؤية الترانسفير أي الترحيل خلال السنوات المقبلة، فإنني أعتقد أنه من الأهمية أن نتوقف عند كافة المعاني التي عبر عنها بني موريس في حواره الانقلابي مع "هاآرتس", وأن نعرض هذا الحوار بتفاصيله أمام المثقفين والسياسيين العرب.
أن خطورة الأفكار التي يقدمها بني موريس (بعد حصوله على سمعة دولية واسعة في الأوساط الأكاديمية والإعلامية نتيجة لكشفه عن جرائم عام 1948) والمبررات التي يطرحها والتصورات التي يقدمها للمستقبل لن تقف عند صفحات جريدة أو كتاب. إنها أفكار ومبررات وتصورات سيتلقفها اليمين الإسرائيلي وزعماء حركة أرض إسرائيل الكاملة ليقنعوا مزيداً من الإسرائيليين بصحة وصواب خطتهم للسلام والتي تقوم على ترحيل العرب من كل فلسطين بما في ذلك عرب 1948 وعرب الضفة وغزة إلى الدول العربية وأراضيها الواسعة. ويستطيع القارئ العربي أن يقدر احتفاء دوائر اليمين الإسرائيلي بهذه الحجة الجديدة التي وفرها لهم انقلاب مؤرخ فضح جرائم الصهيونية واشتهر في العالم بأنه زعيم حركة المؤرخين الإسرائيليين الجدد الباحثين عن حل عادل لمأساة الشعب الفلسطيني فضلاً عن انحيازه لحركة ميرتس اليسارية التي تقود فكرة الجلاء عن الضفة وغزة لتمكين تسوية للصراع, تقوم على فكرة دولتين متجاورتين واحدة لليهود والأخرى للعرب.
ولنتابع بدقة السياق الفكري الذي قدمته صحيفة "هاآرتس" لأفكار بني موريس وتحوله الانقلابي. ونبدأ برؤيته لكتابه "خلق مشكلة اللاجئين" ولردود الفعل حوله خاصة مع صدور طبعة جديدة منه كشف فيها مزيداً من الجرائم التي حصل على وثائقها من ملفات الجيش الإسرائيلي حول حرب 1948.
يعرف بني موريس نفسه بأنه كان وسيبقى صهيونياً إلى الأبد. ويقول إن القراء والنقاد والباحثين قد فهموه بشكل خاطئ عندما صنفوه ضمن تيار ما بعد الصهيونية وعندما تصوروا أن أبحاثه التاريخية عن بدايات مشكلة اللاجئين الفلسطينيين جاءت من أجل إدانة وهدم المشروع الصهيون.· ويؤكد أنه قدم مادة أبحاثه التاريخية بلهجة حياد أخلاقية وبأسلوب علمي صارم وجاف لا يحمل أي تقييم للأحداث التي يكشف عنها. وبالتالي يعتقد أن الخطأ في فهم نواياه من عملية التأريخ وكشف الجرائم يرجع إلى القراء وليس إلى هدفه من البحث التاريخي. غير أنه يبدي عذره للقراء بسبب فهمهم الخاطئ. ويرى أنهم فهموا من كشفه ووصفه للممارسات الوحشية التي قامت بها القوات الإسرائيلية عام 1948 أنه يقصد إدانتها وأنهم عندما طالعوا تصويره التفصيلي لمرتكبي عمليات الطرد الجماعي للعرب تصوروا أنه يصم هؤلاء المرتكبين بالعار الأخلاقي. ويؤكد بني مورس بعد هذا التفهم لعذر القراء في الفهم الخاطئ إن القراء مسؤولون أيضاً عن سوء الفهم لأنه لم يخطر على بالهم أن هذا المؤرخ الذي يوثق جرائم الحركة الصهيونية هو في الأساس صهيوني متعاطف مع هذه الحركة ومتفهم لها ويدرك أن بعض السياسات التي انتهجها كان من المستحيل تجنب حدوثها.
وتسجل صحيفة "هاآرتس" حالة من الازدواجية لوحظت في سلوك المؤرخ بني مورس منذ عامين أي بعد مرور عام على الانتفاضة. فقد بدأ في نشر مقالات في صحيفة "الجارديان" البريطانية يدافع فيها عن سياسة إسرائيل الحالية في حماس بالغ رغم أن معظم الدوائر الأكاديمية الإسرائيلية كانت قد فرضت عليه المقاطعة بسبب كشفه لجرائم الجيش عام 1948. وبرغم أنه صنف في إسرائيل على أنه يساري راديكالي مناصر للعرب. ومن هنا فقد ظهر من وجهة نظر "هاآرتس" في صورة مزدوجة. فهو من ناحية وفي كتاباته الصحفية يدافع عن سياسة إسرائيل في مواجهة الانتفاضة وهو من ناحية ثانية يصدر طبعة جديدة من كتابه عن خلق مشكلة اللاجئين يدعمها بمزيد من الوثائق الرسمية الكاشفة عن مزيد من جرائم الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين العرب في فلسطين في حرب 1948. من هنا ترى "