مما لا شك فيه أن وضع العدالة الاجتماعية في المجتمع الإنسانى اليوم يختلف اختلافات جوهرية عن وضعها في عصر الحداثة الذي شهد تبلور ملامح المجتمع الصناعي، الذى قام على أساس إنجازات الثورة الصناعية بكل أبعادها، والتي تكفلت بنقل المجتمعات الأوروبية من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية.
لقد شهد المجتمع الصناعي في أوروبا في بداية نشأته ظهور طبقة اجتماعية جديدة لأول مرة في التاريخ الإنساني هي الطبقة العمالية، أو طبقة البروليتاريا بحسب المصطلح الماركسي المعروف. وقد أدى صعود الرأسمالية إلى نشوء طبقة أخرى جديدة هي طبقة المنظمين الصناعيين أو رجال الأعمال الذين يستثمرون أموالهم في إنشاء المشاريع الصناعية الضخمة، ويعتمدون على ما يطلق عليه الاقتصاديون الماركسيون "فائض القيمة" لكي يحدث التراكم الرأسمالي الذي يسمح لهم بالتوسع في الاستثمار الصناعي إلى غير ما حدود، وباقتحام ميدان الإبداع التكنولوجي لاختراع أدوات إنتاج جديدة، مما سمح لهم بإنشاء خطوط الإنتاج الكبير، والتي أصبحت قادرة على إنتاج ملايين السلع لإشباع الحاجات الأساسية للجماهير الغفيرة.
وسرعان ما ظهر – من خلال الممارسة وليس عن طريق الجدل النظري بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع – أن ثمة صراعاً محتدماً بدأ ينشأ بين هاتين الطبقتين الرئيسيتين: طبقة أرباب الأعمال من المستثمرين وطبقة العمال.
وكان محور الصراع في الواقع هو موضوعنا الذى نناقشه الآن في حوار الثقافات وهو العدالة الاجتماعية. بمعنى هل يحصل العمال على ما يستحقونه من أجور مجزية تعادل المجهود الجسمي والذهني الجسيم الذي يبذلونه وهم يقفون وراء الآلات في المصانع الضخمة والتي كانت تفتقر إلى وسائل الأمان الصناعي، أم أن الرأسماليين يعطونهم أجوراً متدنية حتى يراكموا أرباحهم على حساب صحتهم البدنية والنفسية، في مناخ كان يفتقر إلى التأمينات الاجتماعية والصحية؟
دار الصراع الضاري بين العمال والرأسماليين، لدرجة أنه في مراحل التصنيع الأولى، ونظرا لزيادة الحوادث بين العمال نتيجة احتكاكهم بالآلات بغير تدريب كاف، ونتيجة لانعدام وسائل الأمان الصناعي، ثار العمال وحطموا الآلات، وفضلوا العودة إلى الريف، ليعيشوا كمزارعين كما كان حالهم قبل مقدم التصنيع. ومع أن هذه الهبات العمالية تم احتواؤها من بعد، إلا أن هذا لم ينف أن الصراع الاجتماعي ظل محتدماً.
ويمكن القول إن أكبر العقول الفلسفية والاجتماعية شغلها هذا الصراع طوال القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين. ونشأ صراع ايديولوجي حاد بين طائفتين من الفلاسفة وعلماء الاجتماع. الطائفة الأولى لا ترى حلاً للصراع بين العمال والرأسماليين إلا بالانقلاب على النظام الرأسمالس والمجتمع الصناعس الذس قام على أساسه، وتحويل المجتمع إلى مجتمع اشتراكس. كان على رأس هذه الطائفة صاحب الفكر الثورس الإنقلابي كارل ماركس ورعيل كامل من المفكرين الثوريين، الذين وإن اختلفت مذاهبهم إلا أنهم جميعا تبنوا نفس الفكرة الثورية. أما الطائفة الثانية من المفكرين فهم أصحاب الاتجاه الاصلاحي الذين وإن اعترفوا ببعض مثالب النظام الرأسمالي، إلا أنهم كانوا يهدفون إلى الإبقاء عليه وإصلاحه من الداخل باتباع وسائل شتى اقترحوها. وبعض هذه الوسائل لم تكن عملية في الواقع، والبعض الآخر كان له طابعه النظري الذي يفتقر إلى إمكانية تحويله إلى سياسات وإجراءات فعلية.
وكان في مقدمة هؤلاء المفكرين الإصلاحيين عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر وعالم الاجتماع الإيطالى باريتو وعالم الاجتماع الفرنسي دور كايم.
وإذا أخذنا دور كايم – باعتباره نموذجا للفكر الرأسمالي الإصلاحي – نجده في الطبعة الثالثة من كتابه الشهير "تقسيم العمل الاجتماعي" يصدره بمقدمة جديدة ويدعو فيها لإنشاء "جماعات مهنية" تجمع ممثلين لأصحاب الأعمال، والحكومة والعمال لحل الصراع المحتدم بين الرأسماليين والعمال، في محاولة منه لتلافي الصراع الدموي بين هاتين الطبقتين اللتين تتشكل منهما أساساً المجتمعات الصناعية الأوروبية.
غير أنه بعيداً عن هذه الحلول النظرية التي أبدعها نفر من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وتجاوزا لخيارات الانقلاب الكامل على المجتمع الصناعي الرأسمالي أو التصالح بين الطبقات، فإن الذي أبدع الحل الذي كان مفتاحا لحل مشكلة العدالة الاجتماعية في المجتمع الصناعي لعقود طويلة من الزمن، هو بسمارك المستشار الألماني الشهير.
أدرك بسمارك بثاقب بصره أن الصراع الدامي بين الرأسماليين والعمال من شأنه القضاء على الاستقرار السياسي، والذي هو شرط ضرورى لأي تنمية اجتماعية أو سياسية أو ثقافية.
ولذلك بادر في مواجهة الدعوات الشيوعية في عصره إلى سن مجموعة من التشريعات الاجتماعية الرائدة والتي صيغت لصالح الطبقة العاملة.. كانت هذه التشريعات التي تضمنت قوانين للتأمينات الاجتماعية والصحية ثورة حقيقية في المناخ الأوروبي الحافل بالسخط على المجتمع الصناعى، وما أدى إليه من ويلات اجتماعية، وقرر بسمارك