بعد ثلاثة عقود من الديكتاتورية، تمت الإطاحة في النهاية بالرجل القوي في الدولة الإسلامية، الأمر الذي ترتب عليه مشاهد من البهجة العارمة، كما ترتب عليه أيضا انطلاق أعمال السلب والنهب المدمرة على نطاق واسع، وانهيار للنظام والقانون. كان النظام الجديد المدعوم من الغرب يعد بالديمقراطية، ولكن الكثيرين كانوا متشككين في إمكانية ذلك وتوقعوا أن تنقسم الدولة إلى كيانات عرقية، وأن يقفز المتطرفون الإسلاميون أو الجنرالات القوميون إلى سدة السلطة، وأنه حتى إذا ما تم عقد انتخابات ديمقراطية، فإن الحكومة التي ستتولى عقب تلك الانتخابات، لن تكون قادرة على إدارة الدولة.
ولكن الأمور لم تصل إلى هذه الحالة الكارثية في إندونيسيا. فعقب مرور ست سنوات تقريبا على الإطاحة بالديكتاتور" سوهارتو"، ومرور خمس سنوات على تنظيم أول انتخابات فيها، فإن كل ما حدث هو أن إندونيسيا التي تعتبر أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث تعداد السكان، تعاني فقط من بعض المشكلات وهي: أن الإرهابيين المرتبطين بتنظيم" القاعدة" قد قاموا بتنفيذ هجومين كبيرين خلال 18 شهرا، وأن الفساد والفقر متفشيان في البلاد، وأن هناك حربا أهلية محدودة النطاق لا تزال مستمرة في أحدى المقاطعات.
مع تلك المشكلات، فإن إندونيسيا لا تزال ديمقراطية، وستقوم بعقد انتخابين، بل ربما ثلاثة انتخابات رئيسية هذا العام. علاوة على ذلك نجد أنها قد غدت الآن أكثر حرية عما كانت عليه منذ أربع سنوات، وأن اقتصادها قد اصبح مستقرا، وأن حكومتها تشارك في الحرب العالمية ضد الإرهاب.
بمعنى آخر، يمكن القول إن إندونيسيا يتستطيع أن تقدم لنا بعض الأفكار العامة، عن أفضل صورة قد يبدو عليها العراق خلال خمس سنوات من الآن. هذه الصورة لن تسعد ناشطي حقوق الإنسان، ولن تقدم الدليل الأكيد على إمكانية إنشاء ديمقراطية إسلامية، كما أنها قد لا تسكت الأصوات التي ارتفعت بالمعارضة للحرب.
بيد أنها، على رغم ذلك، ستتيح الفرصة لتحقيق تطور كبير مقارنة بما كان عليه الوضع خلال الديكتاتورية السابقة، كما ستفتح آفاقا معقولة لتحقيق المزيد من الليبرالية بمرور الوقت.
وإذا ما عدنا بنظرنا إلى السنوات الست الماضية في إندونيسيا، فإننا سنجد أن الدرس الذي سيبرز أمامنا هو أن عملية التحول الديمقراطي في دولة كبيرة وفقيرة معرضه لاحتمال الانقسام، لم تؤد إلى الفوضى التي توقعها المتشائمون، ولا إلى الديمقراطية التي راودت البعض، ولكنها أدت بدلا من ذلك إلى مزيج معقد ومربك في بعض الأحيان من الاثنين، ومصحوبا برواسب من النظام القديم. وهذا المزيج يمكن أن يستمر لعقود قادمة، ولكن ما يهمنا في هذا الصدد هو "التوجه"، أي ما إذا كانت مؤسسات مثل الصحافة الحرة، والقضاء المستقل، والمؤسسة العسكرية التي يديرها مدنيون، تكتسب أرضا بمرور الوقت أم لا.
" هناك كثير من الناس ممن يلقون بنظرة عابرة على دولة ما ويقولون لك هذه الدولة لا تتفق مع النموذج الذي أحبذه للديمقراطية‘". هذا ما يقوله "تيم مايسبيرجر" مدير برامج الدمقرطة والانتخابات لـ" مؤسسة آسيا"، الذي يضيف إلى ذلك قوله:" ولكن من الأفضل لنا في هذه الحالة، أن ننظر إلى السياق. فإذا ما نظرنا مثلا إلى ما حدث في دول مثل تايوان وتايلاند، فإننا سنجد أن عملية التحول الديمقراطي فيهما قد استغرقت حوالي 40 سنة... إنها عملية طويلة، ويجب أن نضع في اعتبارنا أن التحول الديمقراطي في إندونيسيا لم تمر عليه أكثر من خمس سنوات ". ويذكر في هذا السياق أن "مؤسسة آسيا" قد قامت في الآونة الأخيرة بنشر نتائج أكبر مسح تم إجراؤه لرصد مواقف الإندونيسيين تجاه الديمقراطية, وكانت نتائج هذا المسح - كما كان متوقعا- مختلطة. فمن ناحية نجد أن هناك أغلبية كبيرة من الإندونيسيين قد قالوا إنهم يفضلون العودة إلى " نظام يحكمه قائد قوي مثل سوهارتو".. حتى لو قام مثل هذا النظام بتقليص هامش الحقوق والحريات. وفي نفس الوقت قال عدد مماثل تقريبا إنهم يعتقدون أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة سوف تحدث تغييرا في الأمور.
يذهب " مايسبيرجر" إلى القول إن إندونيسيا هي " أكبر دولة إسلامية ديمقراطية في العالم", وإن الأزمات التي مرت بها خلال الخمس سنوات الماضية تعتبر على نحو ما، شهادة على قدرة هذه الدولة على التغلب على المصاعب التي يمكن أن تواجهها.
فرئيسها الأول، الذي تم اختياره من خلال تسويات وصفقات تمت من خلف ستار، كان زعيما شبه أعمى لحركة إسلامية، أثبتت التجربة عدم كفاءته على الإطلاق للحكم، قبل أن ينجح النظام الديمقراطي في إزاحته بعيدا عن المسرح في النهاية. أما خليفته " ميجاواتي سوكارنو بوتري" فهي الأخرى ضعيفة، ولكن حكومتها نجحت مع ذلك في إعادة الاستقرار للاقتصاد، وإنعاش سوق الأوراق المالية. أما المؤسسة العسكرية فقد مضت دون قيود في شن حرب قذرة ضد الانفصاليين في مقاطعة " أتشيه" ، كما قام أحد جنرالاتها- وهو رجل تمت إدانته من قبل الأمم المتحدة بسبب جرائم حرب في " تيمور الشرقية" -بتر