يمثل مقترح الرئيس بوش الفضائي الجديد, دفعة إضافية لمساعي وكالة ناسا للأبحاث الفضائية الرامية لحفز الحماس العام للمغامرة الفضائية وارتياد المجهول. وكما نعلم فإن مقترح الرئيس بوش يدور حول استئناف الرحلات الفضائية البشرية للقمر. وهو لا شك مقترح جريء وطموح, غير أنه يحتاج لدعم الكونجرس أولا. هذا ولا يزال الاقتراح في مرحلته الجنينية الأولية, وتستوجب بلورته وتطويره إلى شكله النهائي, للإجابة العلمية على عدد من الأسئلة الأساسية التي يثيرها الاقتراح. على رأس هذه الأسئلة: ما هي الأهداف الفضائية المفضلة للولايات المتحدة الأميركية؟ ما هي فوائدها وتكلفتها؟ ما هي أفضل الوسائل والأدوات التي يمكن بها تحقيق تلك الأهداف؟
ولما كانت الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب إجراء بحث علمي متخصص, فإن "الأكاديمية القومية للعلوم" تبدو هي الجهة الأكثر تأهيلا وكفاءة للاضطلاع بها. وفي قلب القضايا المثارة ما إذا كانت وكالة" ناسا" نفسها قد مضى عليها الوقت إلى حد ما, وأصبحت في أمس الحاجة لإعادة هيكلتها وتجديد دماء إدارتها وطرائق عملها؟ ومن بين الأسئلة أيضا: متى تسمح الظروف الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة الأميركية بالعودة للاستثمار في الأبحاث الفضائية والإنفاق على تكلفتها الباهظة؟ فمما لا شك فيه أن المستقبل القريب المنظور, لن يكون وقتا ملائما لاستئناف الإنفاق على مثل هذه البرامج, طالما بقي العجز في الموازنة العامة بالمعدل الحالي الذي يشهده اقتصادنا القومي. وفي الإجابة على هذا السؤال الأخير, تتداخل وتتقاطع الاعتبارات السياسية مع الاعتبارات العملية والاقتصادية في ذات الوقت. وربما كان "مكتب المحاسبة العامة" هو الجهة الأنسب التي نبدأ فيها حسابات هذه البرامج المستقبلية.
وما أن تتم الإجابة على كل هذه الحزمة من الأسئلة المثارة أعلاه, حتى تبرز الأسئلة والقضايا المتعلقة بالتكنولوجيا. من بين هذه الأخيرة مثلا: ألا تمثل تقنية الروبوت الفضائي بديلا وأداة أفضل لتحقيق أهداف الكشوفات والأبحاث العلمية, سيما وأن الروبوت يتطلب جهدا أقل في عملية الإطلاق, فضلا عن كونه أقل تكلفة مالية, وأقل خطرا من الرحلات الفضائية البشرية؟ وبهذه المناسبة, فإنه من المثير للمفارقة والسخرية حقا, أن نحتفي كل هذا الاحتفاء بالنتائج المبهرة التي حققتها الروبوتات الفضائية في تجربتي "جاليليو" ومسبار المريخ الأخير, ثم تعقب ذلك مباشرة, دعوة البيت الأبيض للعودة للرحلات الفضائية القائمة على الطاقم البشري! فما هو المبرر الذي يستدعي تبني البرامج الأكثر خطرا والأعلى تكلفة؟ وفيما لو قدمت الأكاديمية القومية للعلوم أسبابا مقنعة لتبني بعض برامج الأبحاث الفضائية البشرية, نظرا لفوائد ومزايا معينة تراها فيها, ولا تنطبق على غيرها من برامج الروبوت الفضائي, فإن الخطوة التالية ستكون ذات صلة بتطوير التكنولوجيا اللازمة لتنفيذ البرامج البشرية المقترحة.
تجدر الإشارة هنا, إلى أن دروس التجربة السابقة مع مختلف أنواع المكوك والسفن الفضائية, أثبتت أن علينا أن نبني تجاربنا اللاحقة على أهم خصائص المكوك السابقة الهندسية والاقتصادية. وتتلخص هذه الدروس في بساطة وسلامة وأمان التصميم الهندسي, فضلا عن اقتصادية البناء نفسها, وإمكان إعادة الاستخدام, ومعقولية عطاءات المقاولين, وانخفاض التكلفة الهندسية بشكل عام.
لكن وفي مقدمة أهم القرارات الواجب اتخاذها بصدد استئناف الرحلات الفضائية البشرية, هو القرار المتعلق بتحديد أهداف وغايات عودتنا للرحلات البشرية, وأنجع السبل وأنسبها لتحقيق هذه الأهداف. وفي هذا فإن علينا أن ننتظر حتى تحين الفرصة الاقتصادية المالية المواتية لاستئناف هذا النوع من البرامج والأبحاث. ليس الانتظار وحده فحسب, بل إن علينا فوق ذلك أن نعطي اعتبارا زمنيا وهندسيا للحصول على المواد المناسبة القادرة على تحمل مقاومة وضغط الفضاء, إن كان لنا أن نعود لإرسال البشر مجددا إلى هناك. وفي يقيني أن العثور على هذه المواد سيمتد لما بين عشر إلى اثنتي عشرة سنة, وليس أربع سنوات, وهي مدة الدورة الرئاسية الواحدة لمن يحالفه الحظ في تسلم مقاليد الحكم في البيت الأبيض. هذا الاعتبار التكنولوجي الهندسي الأخير- العثور على المواد المناسبة لبناء المركبات الفضائية- هو ما يرغمنا على تفادي العجلة, والتنازل عما تبدو فرصا قد نكون في أمس الحاجة اليها, لدوافع سياسية. نخلص أخيرا إلى أن إعلان الرئيس بوش عزمه إطلاق برنامج فضائي جديد, يتطلب أن يخضع لدراسة علمية متأنية, تجيب على كافة الأسئلة التي يثيرها الاقتراح. وهذا يتطلب خروج الاقتراح من دائرة السياسة, وإخضاعه لمجهر العلم الذي يحدد مدى صلاحيته في نهاية المطاف.
ديفيد سي. أشيسون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عضو اللجنة الرئاسية للتحقيق في كارثة المكوك الفضائي "جالنجر" عام 1987
ــــــــــ