راهنا, ثمة جهود أميركية جبارة تهدف إلى تسويق السياسة الخارجية الأميركية وتحسين صورة الولايات المتحدة في العالم العربي والإسلامي. هناك أموال طائلة ترصد, وعقول وطاقات كبيرة توظف, ومراكز وهيئات تؤسس, وسياسات وبرامج تصمم, كلها برسم تحقيق التسويق والتحسين المأمولين. جل ذلك, إن لم يكن كله, يقع تحت مسمى جديد/قديم هو "الدبلوماسية العمومية, أو الشعبية" ‘Public Diplomacy’ التي تستهدف مخاطبة الشعوب وفعالياتها وأحزابها والتشكيلات غير الرسمية المعبرة عنها, وهي بهذا تختلف عن "الدبلوماسية الرسمية" المعنية فقط بالحكومات. تشمل "الدبلوماسية الشعبية" كل الجوانب والأنشطة التي تنخرط فيها الخارجية الأميركية "فيما وراء البحار" بهدف رعاية المصالح القومية الأميركية على الصعد الرسمية وغير الرسمية, بما في ذلك جوانب الإعلام, والفن, والدعم التنموي, والتبادل العلمي, والثقافة, والندوات الحوارية, وسوى ذلك كثير. والتعريف "الأكاديمي الرسمي" الأميركي لهذا النوع من الدبلوماسية يربطها ربطاً وثيقا بأمرين متكاملين هما, أولاً, دعم المصالح القومية, و,ثانيا, تحسين صورة الولايات المتحدة وتفكيك سوء الفهم الذي قد ينشأ في الدول والمجتمعات المختلفة جراء الإصرار على تحقيق أميركا لمصالحها في العالم, وحزمها وصرامتها في إنجاز ذلك. في الوقت الراهن تكرس الدبلوماسية الشعبية معظم مقدراتها لتحقيق الأمر الثاني, أي تحسين الصورة وتفكيك سوء الفهم, ذاك أن الهدف الأول, تعزيز المصالح القومية, يبدو أنه انتقل من دائرة العسكرية الناعمة, أي الخارجية الأميركية, إلى دائرة العسكرية الفجة, أي البنتاغون.
عربيا وإسلاميا, ما هي ملامح تطبيق هذه الدبلوماسية, وكيف تأمل أن تحقق أهدافها؟ تتنوع مظاهر هذه الدبلوماسية لتشمل مجالات عديدة: يأتي الإعلام والتواصل الثقافي والحواري في مقدمتها, وكذا التعاون والدعم المالي لكثير من الأنشطة والجمعيات والهيئات غير الرسمية. ويندرج في ذلك مشروعات مثل إذاعة سوا, وشقيقتها الفضائية القادمة التي ستبث بالعربية من واشنطن, "الحرة", والمجلات الجديدة, والنشريات التي تخاطب الجيل الجديد, والمؤتمرات الحوارية, وكثير من المشروعات البحثية والأكاديمية التي تتضمن إستقدام باحثين عرب ومسلمين إلى الولايات المتحدة, هذا النشاط المحموم لا يجب أن يوصف بالمؤامرة لأنه علني وصريح وأهدافه وآلياته معلن عنها, هذا رغم أن تأثيراته قد تكون أسوأ من أية مؤامرة! وبكونه كذلك, فهو نشاط يلقي بقفاز التحدي في وجه العرب والمسلمين.
لو أن مشكلة العرب والمسلمين مع "الدبلوماسية الأميركية الشعبية" هي ذاتها مشكلتهم مع نظيرتها "الدبلوماسية الرسمية", وتتجسد في أنها تريد أن تحقق المصالح القومية الأميركية في أي مكان في العالم ومهما كان الثمن, ولو على حساب دول ومجتمعات وشعوب تتضرر بشكل كارثي من تلك السياسة. وتريد أن تحسن من صورة الولايات المتحدة وتواجه "سوء الفهم" و"قلة المعرفة" مع استمرار طغيان وحشية السياسة الأميركية. أي أن الدبلوماسية الشعبية والرسمية تريدان يدا بيد تحقيق هدفين متناقضين تماماً: تكريس مصالح إستراتيجية أميركية في طول وعرض العالم تنتج بالبداهة عداوات كبيرة, وفي نفس الوقت نشر صورة حميدة عن الولايات المتحدة. أو بمعنى أكثر فصاحة ومباشرة: القيام بالجريمة, ونشر صورة خادعة بأن المجرم إنسان لطيف. بكل بساطة هذا لا يمكن أن ينجح لأنه ضد أبجديات الأشياء. وإن كان ثمة إختراقات بسيطة هنا أو هناك في محيط ديموغرافي يقارب المليار ونصف المليار, فإنها استثناءات تؤكد القاعدة. والقاعدة هنا تقول بأن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى مئات الملايين لتنفقها في الدبلوماسية الشعبية لتحسن من صورتها في العالم الإسلامي, ولا تحتاج إلى مئات المليارات كي تنفقها في حروبها الإمبريالية في كل رقاع العالم, بل تحتاج إلى أقل من ذلك بكثير لتؤمن نفس الأهداف: أي المصالح وعدم العداء العالمي. تحتاج إلى سياسة رشيدة تؤمن بأن تحقيق المصالح الأميركية في العالم يجب أن يتم على قدم المساواة مع تحقيق مصالح الدول والشعوب التي يتم دوسها الآن, ويجب أن يتم على أساس الحد الأدنى من العدل, وليس الحد الأقصى من القوة. القوة الجبارة لا تنتج إلا عنفا مباشرا ينفجر في وجه القوي, أو عنفا مستترا يمور تحت السطح يتهيأ لإقتناص أول فرصة كي يعصف بثوراته فوق سطحها.
ما تريده "الدبلوماسيات" الأميركية بمختلف تفريعاتها وتسمياتها هو أن تتعامل مباشرة مع الشعوب على قاعدة: اقبلوا بالأمر الواقع وارضوا به, ولنتفق على إطار علاقة ثنائية في ظل هذا الأمر الواقع. وهذا الأمر الواقع تقول مفرداته إن الولايات المتحدة منتصرة, وتفرض شروطها, وإنها فرضت تلك الشروط على الأنظمة الرسمية الحاكمة التي بدورها أقرت بالهزيمة أمام ميلان ميزان القوى الفادح. وهو إقرار قاد تلك الأنظمة إلى إسقاط كل أهدافها القومية والوطنية المعلنة وإختزالها إلى مجرد المحاولة المستميتة للبقاء. كما تقول مفردات ذلك "الأ