يكثر الحديث عنهم ولم نسمع منهم تعليقاً واحداً على ما قيل وأثير، وأتصور أن عدم الإجابة مرتبطة بأمرين لا ثالث لهما، الأمر الأول أن النفر من هؤلاء يعتقد دائماً أنه فوق الشبهات, وهو بذلك فوق أي نقد ولا يمكن أن يطاله لأنه منزه وفق اعتبارات تتعلق بارتباطاته بصناع القرار, وأنه فوق كل هذا وذاك مدعوم، ويا جبل ما تهزك ريح. أما الاعتبار الثاني فهو مرتبط بسيكولوجيا إدارية وسياسية قديمة مفادها (طنش تعش), وأن الوقت كفيل بتحويل النار إلى رماد هامد لا حياة فيه, وأن الانحناء للريح سيدع الأمر يمر بسهولة ويسر, وأن الناس في كثير من الأحيان مجبولة على النسيان بالتقادم.
في ظل غياب حقيقتين أساسيتين في تربيتنا يمارس بعض هؤلاء غيهم وتسيدهم ولا يقيمون وزناً لما يكتب أو يقال أو حتى يشاع عنهم. والحقيقتان الغائبتان هما فقدان ثقافة الحوار وممارسة قمع الآخر.
في علاقة بعض الآباء والأمهات مع الأبناء نموذج لهذا الطرح حيث تسود فكرة مصادرة الرأي الآخر وإخراس الأصوات والتهديد بقطع المصروف أو الحرمان من قضاء عطلة نهاية الأسبوع في جو أسري تسوده المحبة نتيجة لاختلاف رأي الأب مع رأي الولد رغم صواب توجهات الابن في بعض الأحيان، ولكن يبقى الطريق دائماً مسدوداً أمام الرأي الآخر. ينتقل المشهد برمته من البيت إلى المدرسة عندما يصر مدرس الجغرافيا أن دولة بينين تقع في غرب آسيا وأن مصب نهر الفرات يتكون بالتقائه مع نهر النيل عند عبادان وأن مصفاة الشعبية النفطية تقع في البحرين، ورغم كل الأدلة والبراهين والأطلس المصور وحلفان الطلاب أو الطالب الذي درس ونقر عن المعلومات يصر المدرس على رأيه ويتلقى الطالب المعلومة ويكتبها في ورقة الإجابة وتكون خيبته مضاعفة عندما يكتشف أن المصحح في امتحانات النقل يشطب الإجابة ويخسر الطالب الدرجة لأن مدرساً مستبداً برأيه أصر على تلقينه المعلومة التي يريد وفقدان أية لغة للحوار. أما مدرس التاريخ في مدرسة خاصة كان يدرس فيها ابن أحد الأصدقاء، فقد كانت له مع ثقافة الحوار طرائف لا يتسع الوقت لسردها والتعليق عليها. ولأنني كنت طرفاً تحكيمياً في واحدة من طرائفها فقد اكتشفت كم خطرة فكرة تلك التربية الحزبية في تأصيل ثقافة نبذ الآخر في ذهنية ذلك المعلم وعدم تقبله لرأي الطالب رغم صحة منهجه ورجاحة عقله وسلامة منطقة، أقصد الطالب، فقد كان الأخ العربي الذي اكتشفت أنه كان عضواً متقدماً في تنظيم حزبي يحاول دائماً أن يؤكد أنه الأقدر على كتابة التاريخ وأن المعلومات الموجودة في كتاب التاريخ ليست صحيحة وأنه يرى! أن الطلاب لا يفقهون شيئاً عندما يعارضونه في أطروحاته وأن نصيبهم من الرسوب لديه كبير. يربى الأبناء على ثقافة التلقي وتعليم التلقين وكل ما يقوله المعلم لا جدال فيه وأنه ليس من حق الطلاب إبداء الرأي أو حتى المناقشة ويكبر الفتيان وتترعرع الفتيات على هذا النهج التربوي ويأتون إلى الجامعة وهم مثقلون بفكرة أن المعلم دائماً على حق. وقد مارست التعليم الجامعي لأكثر من عشرة أعوام وحاولت أن أفتح ثغرة في جدار التربية الأحادية التوجه في سير المعلومات مشجعاً طلابي وطالباتي على المناقشة وطرح الأفكار وحتى الاختلاف، وقد كتب لهذه التجربة التي اعتبرها أستاذ جامعي شاذة وغير تربوية، كتب لها النجاح وشجعت أبنائي على الحوار والمناقشة وغيرت من شخصياتهم وأكثرهم يدين لهذه التجربة بالعرفان بعد إثبات قدراته ومنحه الفرصة الكاملة لإيصال أفكاره والاستماع للآخرين وقلب مفاهيم الفكر التسلطي أحادي الاتجاه.
في المشهد الآخر ينتقل ذات الطالب الذي نشأ على ثقافة نبذ الآخر إلى المجتمع ويغدو صانعاً للقرار أو مؤثراً في صنعه ويمارس فكرة قمع الآخر وازدراء الفكر المضاد، وعندما تحين وتتهيأ الفرص المواتية يغتنمها لتصفية كل معارض له ولا تحتاجون مني لأدلة وبراهين فحياتنا السياسية العربية في ظل حكم الأنظمة الشمولية وفكرة الحزب الواحد والزعيم الأوحد وفكرة اغتيال صندوق الانتخابات أو تحويله لديكور في مسرحية رصد النتائج التي تأتي دائما ً وبشكل ساخر بنسبة 99.9% لصالح الزعيم الأوحد وصاحب الفكر الذي يقود الجماهير إلى مدارج النور والعزة لتكتشف الجماهير الصامتة أو المجبورة على الصمت أنه قادها للمهالك وأورثها الفقر ورهن مستقبلها لاستعمار جديد سيجثم فوق صدورها لزمن لا يعرفه إلا الخالق عز وجل، ولكن لو تفوه أحدهم بكلمة معارضة أو طرح فكرة لمناقشة الرمز لأخرس أو اجتز لسانه وأودع في سجن انفرادي وسلخت فروة رأسه لأنه تجرأ على كسر هيبة الفكرة وخدش حياء ما توارثته الأجيال من ثقافة أحادية المسرب وأحادية الطرح لا تقبل بالآخر ولا تنظر إليه إلا من زاوية ضيقة يقع الاحتقار في أعلى مراتبها.
في ظل غياب الصوت الآخر وفي ظل تغييب المعارض حدثت تحولات كثيرة في بنية المجتمعات العربية أورثتنا ثقافة صادرت حق الآخرين في المشاركة ونبذت كل من يختلف معها، فلا تكاد تجد مساحة في الوطن العربي تتسع لجلوس سني وشيعي للحوار دون أن يكفر إحداهما الآخ