في الوقت نفسه الذي تريد فيه الولايات المتحدة أن تفرض أجندتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وتسعى إلى أن تجعل الدول الأوروبية تدخل في بيت الطاعة، بعد أن استكثرت على بعض الأوروبيين تجرؤهم على مخالفة تحركاتها الدبلوماسية، ها هي الآن تصادف مصاعب جدية في علاقاتها مع أميركا اللاتينية·
مع ذلك، يمكننا القول إنه منذ القرن الـ19 وأطروحة مونرو (1823)، ظلت أميركا اللاتينية بمثابة حديقة خلفية للولايات المتحدة· فقد اعتادت أميركا منذ ذلك التاريخ التدخل في شؤون دول أميركا اللاتينية، فتنصّب أنظمة صديقة لها، وتسقط أخرى بالقوة العسكرية متى ما رأت ذلك ضرورياً، وحسب مزاج واشنطن وتقلباتها· وقد أدى هذا التدخل الأميركي الدائم في شؤون الجيران، بالناس في المكسيك (التي تعرضت لقضم متواصل لأراضيها من قبل الأميركيين طيلة القرن (19) إلى تداول قول مأثور: (مسكينة هي المكسيك، كم هي بعيدة من الله، وكم هي قريبة من الولايات المتحدة!)·
لكن اجتماع قمة الأميركتين الأخير الذي جمع رئيس البيت الأبيض ونظراءه الأميركيين اللاتينيين يومي 12-13 يناير في المكسيك بدا خلاله لكل مراقب أن الجو العام للعلاقات بين الطرفين يعرف الآن تبدلات جدية، وأن ثمة هوة سحيقة باتت تفصل بين شمال وجنوب (ريو غراندي) (نهر يفصل الولايات المتحدة عن المكسيك)، وأن هنالك متغيرات جدية وتحولاً لم يكن موجوداً حتى عهد قريب، وتحديداً خلال القمة الأخيرة التي انعقدت في أبريل 2001·
في زمن مضى، كان شبه القارة الأميركية - اللاتينية مختبراً لتجريب الطرائق النيو- ليبرالية التي يتبجح الأميركيون بالترويج لها· واختفى لبرهة من الزمن العداء التقليدي لأميركا، وقد وصلت الأمور ببلد كالأرجنتين مثلاً إلى إلحاق عملته بالدولار الأميركي· وكان ذلك للأسف تصرفاً أرعن كلف الأرجنتين غاليا، وعصف باقتصادها في أتون أزمة طاحنة كانت لها آثار بالغة السوء اجتماعياً، بشكل لا سابق له·
ومنذ سنة تقريباً تغير أفق العلاقات بشكل كامل، بين واشنطن ودول أميركا اللاتينية، كما عرفت هذه الأخيرة بدورها تحولات جذرية في أكثر من بلد· ففي ديسمبر 2002 تم انتخاب لويس إيجناسيو لولا داسيلفا، الملقب (لولا) رئيساً للبرازيل، وقد طبع بصماته على التحركات الديبلوماسية لهذا البلد الضخم· فقد عارض علناً الحرب على العراق، واضطلع بدبلوماسية نشطة إزاء أفريقيا والشرق الأوسط، حيث التقى بزعماء مغضوب عليهم أميركياً مثل القذافي وبشار الأسد.بل إنه في الفترة الأخيرة أوعز بالرد على الإجراءات الأمنية الأميركية المشددة التي باتت تعقّد على الناس دخول الأراضي الأميركية، وذلك من خلال إجراء انفردت البرازيل بشجاعة اتخاذه في حين لم تتشجع كل الدول الأوروبية على ذلك وهو: التعامل بإجراءات احترازية مع المواطنين الأميركيين الراغبين في زيارة البرازيل، وأخذ بصماتهم، وتصويرهم· تماماً كما يتعرض البرازيليون لكل تلك المنغصات عند زيارتهم للولايات المتحدة· ولم تقتصر البرازيل على هذه المعاملة الندية فقط، بل إن كل المؤشرات تدل على أنها تريد لعب دور نشط على الساحة الدولية· وكلما تقدمت في هذا المسعى بعدت الشقة واتسعت الخلافات بينها مع واشنطن بطبيعة الحال·
وفي تشيلي فقد وصل إلى سدة الرئاسة الاشتراكي ريغاردو لاغوس، منذ 3 سنوات· وهو يبدو في توجهاته ميالاً إلى الاستقلال عن مواقف الأميركيين· أما في الأرجنتين فإن الرئيس الجديد نستور كيشنر المنتخب إثر الأزمة الطاحنة التي تردت فيها بلاده، كان قد استلم مقاليد الحكم في مايو 2003· إن الأرجنتين التي استوعبت الدرس بالقدر الكافي عرفت الآن كيف ترفع رأسها لتقول (لا) في وجه صندوق النقد الدولي، كما باتت ترى أنه من حقها أن تقيم علاقات طبيعية مع فيدل كاسترو (هذا علماً بأن كوبا هي الدولة الأميركية اللاتينية الوحيدة التي لم تتم دعوتها إلى حضور قمة الأميركتين هذه)، وكل هذه الأمور تعد من أسباب إثارة غيظ جورج دبليو بوش· لقد جعل كيشنر الجميع يفهمون، بما فيه الكفاية، أن الأيام التي كانت الأرجنتين فيها، تتبع بشكل أعمى سياسات واشنطن، قد ولت الآن إلى غير رجعة· ويمكننا أن نكمل الصورة في القارة اللاتينية، بإضافة دول رفض أخرى تعاني الإدارة الأميركية من صداع حقيقي في التعامل معها· ففي فنزويلا، الدولة البترولية المهمة، درج الرئيس هوغو شافير منذ عام 1998 على معارضة السياسة الأميركية، ومخالفة واشنطن في كل توجهاتها، من الألف إلى الياء· هذا حتى لا نتحدث عن الوضع في الباراغاوي التي يميل الرئيس دييارتي فيها، بشكل يزيد الشعور به، إلى الاقتداء بنظيريه الأرجنتيني والبرازيلي· وفي بوليفيا، يعد القادة الممسكون بالوضع هناك، محل استياء واضح من قبل واشنطن، بالنظر إلى القلاقل الشعبية والتصفيات التي وقعت في تلك الدولة في شهر أكتوبر 2003· وليس الوضع أحسن حالاً في الأورغواي، التي لا يوجد فيها من المؤشرات ما يدل على أنها ستخرج من المشهد العام لهذه السلالة السياسية الجديدة في أميركا اللاتينية، ولعل