حتى العام 1991 كانت جورجيا جمهورية سوفييتية ذات مكانة خاصة، لكونها مسقط رأس القائد السوفييتي الأسبق جوزيف ستالين، فضلا عن كونها موردا للفواكه والحمضيات وغيرهما من المنتجات الأخرى. أما بعد الاستقلال وانهيار الاتحاد السوفييتي، فقد أصبحت لجورجيا أهمية جيوسياسية بالنسبة للاتحاد الروسي الجديد. وقد احتلت هذه الأهمية بحكم مجاورتها لجمهورية الشيشان وغيرها من المناطق الأخرى المضطربة في جمهوريات القوقاز. ومن فرط أهميتها فقد اعتزم الكرملين في ظل إدارتي كل من الرئيسين بوريس يلتسين وبوتين، تبني تحوطات أمنية ضد خطوة الاستقلال التي خطتها هذه الجمهورية الصغيرة المشاكسة العنيدة. وكانت الاستراتيجية التي تبناها الكرملين في سبيل تنفيذ التحوطات الأمنية آنفة الذكر، هي مبدأ (فرق تسد) الذي كان قد عمل به كل من ستالين والقياصرة الروس الذين سبقوه للحكم. وكانت موسكو قد شجعت علنا عمليات الانفصال التي جرت في محافظة أبخازيا الواقعة جنوب غربي جمهورية جورجيا على البحر الأسود. نتيجة لتلك السياسات، فقد شاركت كل من وحدات البحرية والقوات الجوية والبرية التابعة للجيش الروسي، في تقديم الدعم العسكري المباشر لقوات الانفصاليين في محافظة أبخازيا المتمردة على الحكومة المركزية الجورجية· واليوم فقد أصبحت محافظة أبخازيا دولة مستقلة، برغم أن الجهة الوحيدة التي تعترف باستقلالها هي موسكو· وقد ساعدت قوات حفظ السلام الروسية الموجودة فيها، على تكريس هذا الاستقلال باعتباره أمرا واقعا. تلا ذلك استقلال محافظة أوسيشيا الجنوبية بالطريقة ذاتها·
واليوم فقد تحول اهتمام الكرملين لمنطقة ثالثة هي محافظة أجاريا الواقعة هي الأخرى, في جنوب غربي جورجيا على البحر الأسود. ومع أن هذه الأخيرة لم تنفصل بعد، إلا أنه أصبح في مقدورها أن تفعل كما يحلو لها, بعيدا عن هيمنة أو سلطة الحكومة المركزية. وقد قاطعت المحافظة مؤخرا الانتخابات العامة التي جرت في الرابع من هذا الشهر يناير 2004، وهي الانتخابات التي أتت بالرئيس الجورجي ميخائيل سكاشفيلي·
وفي وسع موسكو أن تلعب هذه الورقة الحدودية الإقليمية فيما لو شعرت بضرورة أمنية سياسية تستدعي ذلك· كما أن لدى موسكو دوافع أخرى غير الدوافع الأمنية والسياسية مثل النفط الذي تعتمد عليه جورجيا، ثم خيارها الأخير المتمثل في القوات الجورجية نفسها. فالمعروف أن لموسكو قواعد عسكرية في جورجيا. وقد أرغم الرئيس الجورجي السابق إدوارد شيفارنادزة على ابتلاع هذه الحقيقة في أعقاب خسارته لمحافظة أبخازيا. وكان شيفارنادزة قد أرغم أيضا على الانضمام لمنظمة الكومون ويلث الخاصة بالجمهوريات المستقلة، وهي المنظمة التي تهيمن عليها روسيا·
بل إن الكرملين مضى شوطا أبعد من ذلك. ففي عام 1998، كان سفير أبخازيا لدى واشنطن، قد حذر من احتمالات تعرض خط الأنابيب النفطية الممتد عبر باكو-تبليس-سيهان، وهو خط أنابيب يمتد من بحر قزوين إلى تركيا عبر جمهورية أذربيجان، بسبب الهجوم الذي سوف تشنه أبخازيا على ذلك الخط النفطي. ولذلك, فقد حذر سفير أبخازيا من أن تعرض استثمارات النفط موظفيها وأموالها ومعداتها للخطر. وفي ذلك التحذير فقد كان السفير بمثابة صدى لا أكثر، لما تقوله موسكو في واقع الأمر· يذكر أن الرئيس الجورجي السابق شيفارنادزة، كان قد مضى شوطا أبعد من ذلك، باتهامه موسكو علنا بالتورط في التدبير لمحاولة اغتيال، كانت تستهدف في الأساس التخلص منه، وصولا لقفل الطريق أمام خط الأنابيب المذكور.
ومع أن موسكو لم تعد تلوح بسيف تهديداتها للجمهورية المستقلة مثلما كانت تفعل سابقا، ربما بسبب تزايد النفوذ الأميركي في المنطقة، الذي لا يغيب عن حساباته واعتباراته الوصول إلى الثروات النفطية الكامنة في بحر قزوين. هذا وتعكف شركات النفط الغربية على إعادة بناء خط الأنابيب المذكور، على أمل افتتاحه في العام المقبل, على رغم الاحتجاجات المبدئية العالية التي أعلنتها موسكو ضد خطوة كهذه. ومن البديهي أن اعتراضات موسكو تقوم على رغبتها وحرصها على أن تمر كل كميات النفط الخام المستخرجة من بحر قزوين،عبر أنابيبها هي.
في الاتجاه ذاته، قدمت واشنطن نوعا من الحماية لجمهورية أذربيجان ضد الضغوط التي تمارسها عليها موسكو. يذكر هنا أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول كان قد طالب الكرملين بالوفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه، بسحب القوات الروسية المتواجدة في جورجيا. غير أن رد الكرملين على ذلك المطلب هو أن القوات المذكورة سيتم سحبها خلال مدة لن تقل عن عشر سنوات أخرى. ومن أهم مسائل الخلاف بين كل من موسكو وواشنطن، هي تواجد ما لا يقل عن 150 ألفا من أفراد القوات الخاصة الأميركية تم نشرهم في منطقة وادي بانكيسي الواقع داخل أراضي جمهورية جورجيا, عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر مباشرة. والمعروف عن هذا الوادي أنه يعد معبرا للعصابات والمقاتلين والمهاجرين الوافدين من وإلى إقليم الشيشان. من جانبها تبرر واشنطن استمرار هذه القوات, بالحاجة لها لمواصلة أداء مهامها الم