يمضي العلماء في مسيرة الاستكشاف العميق لدور المزاج في جعل بعض الأشخاص عرضة للأمراض الجسدية، وذلك من خلال دراسات تستقصي كيفية تأثير الضغط النفسي في نظام المناعة وإضعاف الخلايا المقاومة للمرض واستحداث بيئات خصبة للعوامل الإمراضية.
أخيراً، خرجت نتائج دراسة أظهرت أن مقاومة أجسام الرجال الخجولين لفيروس الإيدز أضعف بكثير منها لدى الرجال الانبساطيين، وأن ذلك يجعلهم أقل استفادة من العقاقير المضادة للفيروس. ويعني ذلك كما يقول الباحثون أنها الدراسة الأولى التي تبرهن من خلال الفحوص المخبرية على وجود صلة ما بين الانطوائية وسير مرض الإيدز لدى الأفراد.
وتبحث دراسات من هذا النوع في خفايا أدق التفاصيل التي تقف وراء الفكرة التي تقول بعدم إمكانية حصر آليات عمل الجسم والعقل في مجالات محدودة وفي فروع دراسية ومناهج يتعلمها طلاب كليات الطب. وكنتيجة لذلك، تتحول مسألة إعارة الانتباه للحالة العاطفية، لدى المرضى المصابين بأمراض مزمنة، إلى ما هو أكثر أهمية من العناية الطبية والتمريضية، بل إنها أخذت في التحول إلى جزء جوهري من المعالجة.
ومن المعلوم أن الاشتباه بوجود صلة بين الحالة الانفعالية العاطفية والمرض أمر ليس حديث العهد، بل يرقى إلى القرن الثاني الميلادي حين لاحظ بعض الأطباء وجود علاقة ما بين (السوداوية) (الميلانخوليا) والمرض الجسدي. لكن الباحثين الآن صاروا قادرين على إجراء تحديد دقيق لشبكات الأنظمة البيولوجية التي تربط ما بين المزاج النفسي وخط تقدم المرض؛ ومن المعلوم أن تيارات من الإشارات الكيميائية (السيالة العصبية) تتدفق من الدماغ إلى الجسم ثم تعود إلى الدماغ، لتثير في أكثر الأحيان لدى الفرد استجابة من فئة (المواجهة أو الفرار) على المدى القصير، غير أنها تؤدي على المدى الطويل إلى إضعاف مقاومة الجسم للأمراض. وتقوم بعض أنواع تلك
الإشارات بتسريع ضربات القلب، في حين تقوم أنواع أخرى بحرق مادة العظام والعضلات. وهكذا تؤدي بعض التغيرات إلى جعل الخلايا ضعيفة وعرضة للسقوط أمام الفيروسات.
ومن الممكن أن تبلغ العواقب مستوى دراماتيكياً مثيراً. وقد ظهر في الدراسة الجديدة أن نسبة الفيروسات في دماء الرجال الانطوائيين المصابين بمرض الإيدز، الذين يتكتمون ويتحفظون ويخفون، أكبر بـ8 مرات منها لدى الرجال الانبساطيين. وبعد معالجتهم بمضادات الفيروسات لمدة 18 شهراً، هبطت نسبة الفيروسات لدى الانبساطيين بمعدل 162 ضعفاً، لكنها لم تنخفض لدى الانطوائيين إلاّ بمعدل 20 ضعفاً، وذلك بحسب ما ورد عن (ستيف كول) الباحث لدى (معهد الإيدز) في جامعة كاليفورنيا-لوس أنجلوس.
ويندرج رأي (أنتوني فوشي) في هذا الاتجاه، وهو يوافق على أن (هناك صلة بين السمات السيكولوجية والاستجابات الأسوأ لفيروس نقص المناعة البشرية، بل وحتى لعدد من الأمراض الفيروسية الأخرى)· ويعمل (فوشي) مديراً لـ(المعهد القومي للحساسية والأمراض الإنتانية)، وهو مركز البحوث الحكومي الرائد في ميدان مكافحة الإيدز.
وقد أظهرت البحوث الأخرى وجود صلات مشابهة بين الاضطرابات العقلية ومنها الاكتئاب مثلاً، والإيدز وترقق العظام بل وحتى السرطان. وقد أجرى الباحثون دراسة على 5000 شخص مصابين بالاكتئاب وأظهرت أنهم عرضة لضعف مخاطر الإصابة بالسرطان، بالمقارنة بالأشخاص غير المصابين بأي اضطرابات عقلية، على حد قول (ديفيد سبيغل) أستاذ الأمراض العقلية في كلية الطب-جامعة ستانفورد. وقد اكتشف (فيليب غولد) رئيس الشعبة السريرية لأمراض الغدد الصُّم في المعهد القومي للصحة العقلية، أن النساء المصابات بالاكتئاب واللواتي لم يبلغن سن اليأس يعانين الإصابة بترقق العظام بمعدل يتراوح ما بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف مخاطر الإصابة بترقق العظام لدى غيرهن من النساء.
وقد قدّمت الدراسة التي أجريت في جامعة كاليفورنيا-لوس أنجلوس، والتي نشرتها دروية )Biological Psychiatry(، مفاتيح مهمة لفهم المسارات الفيزيولوجية التي يتبعها الضغط النفسي لدى تأثيره في جسم الإنسان، والتي من الممكن أن توحي في القريب العاجل بأهداف المعالجة الرامية إلى مكافحة تأثيراته.
وقال (غولد) في إحدى المقابلات: (يبدو أن أجسام الأشخاص ذوي المزاج الخجول الحساس أكثر ميلاً واستعداداً لتوليد استجابات صادرة عن الجملة العصبية الودّية (أو السبمتاوية))، وهو بهذا يشير إلى جزء من الجملة العصبية يتولى تسريع ضربات القلب وإحداث التغييرات الأخرى غير الإرادية والمرافقة للضغط النفسي. ويقول (غولد) (إن (هؤلاء الأشخاص) يتعرضون لوطأة الضغط النفسي المتولّد عن أسباب كثيرة، بما فيها الاحتكاك بالغرباء)·
ومن المرجح أن تكون الجملة العصبية لدى الأشخاص الخجولين تنتج ردود فعل إجهادية نفسية أثناء التفاعلات الاجتماعية- ولذا فإنهم يحافظون على توازن الضغط النفسي الداخلي بتقليص دائرة احتكاكهم بالناس.
وقد أظهرت دراسات سابقة أن استفحال مرض الإيدز يتسارع لدى الرجال اللواطيين الانطوائيين الذين لازموا غرفهم، وذلك بالمقارنة مع أولئك (ا