بدعوة كريمة من مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تواجدت في "أبوظبي" للمشاركة في ندوة "الخليج وتحديات المستقبل" والتي شارك فيها عدد كبير من المسؤولين الرسميين والمثقفين والعسكريين. وبرغم أن ما عرض وتمت مناقشته لم يكن جديداً، خاصة الخطاب الرسمي المتحفظ للمسؤولين الرسميين، دون تجاهل لصراحة وزير الإعلام الإماراتي، إلا أن تكرار السياسات والموضوعات يثير تساؤلاً أعتقد أنه مهم وهو: ما هو مصير كل هذه الأوراق البحثية لدى صانع القرار السياسي؟.
الوضع في الإمارات هو نفسه في الكويت وفي مصر وغيرها من الدول العربية، ذلك الافتراق بين "هؤلاء" المثقفين، و"أولئك" السياسيين. وشتان ما بين المثالية والبراغماتية (الواقعية السياسية).
ينطلق المثقف من "ما يجب أن يكون"، في حين أن السياسي ينطلق من "ما هو ممكن". ولا شك أن أطروحة السياسي أشد التصاقاً بالواقع وقضايا الناس، من أطروحة المثقف "الغاطس" في الأوراق، لكن ما يحصل في عالمنا العربي ذلك الافتراق بين الاثنين، حيث يعمل كل واحد منهما في واد، برغم التعامل المشترك بينهما والمتمثل في سعي كل واحد لخدمة وطنه. وكثرة الندوات والمحاضرات السياسية والثقافية بشكل عام، لن تحُل للأسف دون استمرارية معضلة استفادة السياسي مما يكتبه المثقف، وعدم قدرة المثقف على فهم واقع السياسي، حتى أصبحت مقولة "من يرى لا يملك، ومن يملك لا يرى"، معضلة نقطة الافتراق بين المثقف والسياسي. وهي معضلة يصعب تحديد المسؤول عنها، وليس من المبالغة القول، إن كل طرف يتهم الآخر.
المثقف "يرى" الأشياء على حقيقتها المثالية، في حين أن السياسي يرى الأشياء نفسها بواقعيتها.
ويكفي أن نضرب مثلاً بقضية حقوق الإنسان التي يتعامل معها المثقف من خلال نصوص الإعلان العالمي، في مقابل تعامل السياسي معها من خلال القوانين القائمة والجهاز البيروقراطي والسياسة الرسمية المعمول بها، إذ شتان بين "الرؤيتين"، برغم رغبة الطرفين الأمل بتطور أفضل في هذا المجال. لذلك تصبح هناك حاجة أو موقع يلتقي فيه الطرفان، مع التشديد بالقول إن المثالية ليست -كما قد يتراءى للبعض- غير قابلة للتطبيق الواقعي، بقدر ما هي هدف يسعى إليه الرسمي بخطوات وئيدة من خلال سياساته. فالمثالية، وضع نحتاجه في حياتنا لكي نتطور بهدف تحقيقها. ولا شك أننا كبشر، لن نصل في أي يوم لهذه المقابلة في أي موضوع، لكنها تمثل لنا دافعاً للعمل الأفضل.
لست أقول إن مثل هذه الندوات لا فائدة منها، بل أدعو إلى بذل المحاولات الجادة من قِبل المسؤولين الرسميين للاستفادة مما هو مطروح للنقاش في هذه الندوات، حتى ولو كان يبدو متعارضاً مع السياسات العامة الآن. والسياسي -صانع القرار- لا يمكنه الاستغناء عن المثقف مهما يكن مثالياً أو معارضاً وناقداً للسياسة الرسمية، لأننا في النهاية ننشد الخير للوطن وللشعب الذي ننتمي إليه، وإن تفرقت بنا سبل الرؤى، ولأن حدوث مثل هذا التجاهل أمر مضر بالمصلحة الوطنية. لذلك لابد من الدعوة وبإصرار، في أن لا تبقى هذه الرؤية التي تتضمنها العديد من الدراسات أسيرة الورق ثم المخازن ليعلوها الغبار ويأكلها النسيان. ومركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية جزء أساسي من مؤسسات الدولة، بمعنى تنامي القدرة لدى العاملين المسؤولين فيه على الاتصال بصانع القرار السياسي للاهتمام بهذه الدراسات، وهذا ما نتمناه لخير الجميع.