بعد أن انجلى غبار الحرب وطويت صفحة دموية من تاريخ العراق المعاصر، تعين على العراقيين بجميع فئاتهم وطوائفهم، أن يواجهوا مصيرهم المشترك، عندما دقت لحظة الحقيقة كشف العراقيون عما جبلوا عليه من وطنية وأصالة فلم تقع مذابح ولا تصفيات، خاصة أن كثيرين توقعوا حدوث حرب أهلية وقلاقل لا أول لها ولا آخر كان النظام البائد قد زرع بذورها، وعلى العكس انتظمت القوى الحية العراقية في أطر سياسية توافقية جديدة.
غير أن الفترة الأخيرة شهدت تحولاً نوعياً قد تكون له آثار وخيمة على مستقبل العراق برمته، وقد تضع حداً لروح التوافق التي ميزت المشهد السياسي العراقي طيلة الأشهر العشرة الماضية. ونقصد هنا تحديداً السيولة العجيبة-المريبة التي ميزت مواقف القيادات الكردية العراقية مؤخراً ومطالبة رموز كردية ذات شأن بتكريس الفيدرالية نظاماً للعراق الجديد، ومنذ الآن وقبل أن تستقر الأمور ويستلم العراقيون شؤون حكم بلادهم بأنفسهم. وهي مطالبات مشبوهة وغير واقعية على أقل تقدير، خاصة أن صيغة الفيدرالية التي يطالب بها الأكراد يريدون لها أن تقوم على أساس عرقي، وبشكل يعيد رسم خريطة بعض المحافظات العراقية جغرافياً وسكانياً في الوقت ذاته، لا على أساس إداري يراعي تقسيم العراق إلى ثماني عشرة محافظة كما يريد عامة العراقيين للفيدرالية أن تكون، وهو الأمر الذي تؤيده دول المنطقة أيضاً.
إذا كان الأكراد اعتادوا خلال السنوات الماضية إقناع القوى العظمى بحماية منطقة حكمهم الذاتي من إرهاب نظام صدام، فهذا النظام مضى الآن غير مأسوف عليه إلى غير رجعة. وإذا كانوا اعتمدوا على استدرار العطف من المجتمع الدولي من منظور كونهم أقلية مضطهدة فهذه الصفة انتفت الآن وانتفى معها مبعث ذلك التعاطف. وإذا كانوا قد استغلوا إلى أبعد حد ممكن الترتيبات السياسية التي قامت في مرحلة ما بعد صدام، فهذا من حقهم كعراقيين بشرط ألا يصل إلى حدود ابتزاز الفئات الأخرى والنيل من حقوقها والتعدي عليها. لقد مُثّل الأكراد بما فيه الكفاية في مجلس الحكم الانتقالي وفي الحكومة التي انبثقت عنه، وكانوا الطرف العراقي الوحيد الذي ترك له حق الاحتفاظ بميليشيا مسلحة كبيرة للغاية، في حين سُرّح الجيش العراقي أفواجا، وجردت الميليشيات الحزبية والطائفية الأخرى من أسلحتها، فما الذي تريده القيادات الكردية بعد كل هذا غير الانفصال عن الوطن العراقي الواحد، أو الانسلاخ من خريطة العراق جملة وتفصيلاً، ومرة واحدة وإلى الأبد؟
إن القيادات الكردية، وعموم القوى الحية في العراق، والإدارة الأميركية - بحكم المسؤولية القانونية والأدبية المترتبة عليها بموجب القانون الدولي- كلهم مطالبون بتطويق مثل هذه الدعوات الانفصالية غير المسؤولة، ووضع حد لإمكانية إساءة تفسيرها إعلامياً، إن كان من يطلقونها يقومون بذلك عن حسن نية، أو يقصدون الألفاظ دون معانيها وإسقاطاتها الذهنية والسياسية، لأن ذلك وحده من شأنه أن يجنب العراقيين والمنطقة اندلاع شرارة حرب جدية حقيقية في عموم العراق لا يعلم إلا الله وحده ما سينجلي عنه غبارها من كوارث وجراح اجتماعية وسياسية ثقيلة لا تحمد عقباها، وللجميع، دون استثناء. هذا ما يقوله المنطق، فمن يزرع الريح لا يجني سوى العاصفة.