فلنقلها صراحة وبدون لف أو دوران: السياسة الأميركية الحالية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سياسة "مجنونة".
فهل هناك أحد يمكنه أن يرى الفلسطينيين، الذين أصيبوا بنوبة من الجنون الجماعي، وهم ينتحرون.. ويرى الإسرائيليين، الذين تقودهم قيادة انحرفت عن المسار، وهم يبنون المزيد من المستوطنات، كي يمكن لليهود المتعصبين أن يعيشوا في قلب المناطق المسكونة بالفلسطينيين.. دون أن يتوصل للخلاصة التالية: إن الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني قد وقعا في أسر دائرة شريرة للغاية من التدمير الذاتي، تهدد بقاء إسرائيل ذاتها على المدى الطويل، وتشوه صورة أميركا في الشرق الأوسط، وتقوض أي أمل في إقامة دولة فلسطينية، وتضعف العرب المعتدلين الموالين لأميركا. ليس بمقدور أحد أن يتوصل إلى أي محصلة مغايرة.. ورغم هذه فإننا نرى أن فريق بوش، مدعوماً ببعض الجماعات اليهودية والمسيحية المحافظة الناشطة، لا يزال يعتقد أن السياسة السليمة في الشرق الأوسط هي ألا يكون لنا سياسة.. أليست تلك سياسة مجنونة كما وصفتها آنفا؟
إنني أرى أنه يتعين على إسرائيل الخروج من الضفة الغربية وقطاع غزة، وإخلاء معظم المستوطنات بأسرع وقت ممكن. لقد دعوت طويلاً إلى ذلك الانسحاب الذي أصبح الآن يمثل حاجة ملحة، والذي بدونه ستصبح الدولة اليهودية في خطر. الخيار النموذجي لذلك هو أن يتم التفاوض بشأن هذا الانسحاب وفقا لخطة "كلينتون"،أو أن يتم القيام به من جانب واحد.. إذا ما دعت الضرورة لذلك.
لماذا ؟.. هناك عدة أسباب: أولها، أن العالم العربي- الإسلامي الذي ظل في إجازة طويلة من العولمة، والتحديث، والليبرالية، أصبح يدرك الآن أن تلك الإجازة قد انتهت. حيث لم تعد هناك ثروات نفطية كافية لاستيعاب وتشغيل الزيادة السكانية الهائلة في المنطقة، مما سيضطر كل دولة عربية للقيام بتعديلات مؤلمة كي يمكنها التلاؤم مع هذه الحقيقة. وإسرائيل من جانبها، في حاجة أن تنأى بنفسها، وتعمل على تقليل مصادر الاحتكاك مع العالم الإسلامي، وهي تمضي في طريقها للخروج من الوضع الحالي غير المستقر، والمهين، في بعض الأحيان.
السبب الثاني، يتمثل في أنه ثمة ثلاثة اتجاهات خطرة تتجمع كلها الآن على رأس إسرائيل. أحد تلك الاتجاهات هو الانفجار السكاني الهائل في العالم العربي. أما الثاني، فهو تلك الموجة من العنف التي تستهدف الأشخاص والتي تعد الأسوأ في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. والثالث، هو انفجار الإعلام العربي – من الجزيرة وحتى الإنترنت. فما يحدث في أرض الواقع هو أن هذا الانفجار الإعلامي في العالم العربي، يقوم بضخ صور العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلى الانفجار السكاني العربي بطريقة تؤدي إلى جعله راديكاليا.. كما أنه يقوم بتغذية عقول الشباب العربي والمسلم بفكرة مؤداها أن التهديد الأكبر الذي يواجههم ينحصر في اليهود وإسرائيل والأميركيين.
بيد أنه يجب ألا يفهم مما سبق أن الانسحاب الإسرائيلي سيكون في حد ذاته علاجاً لكل تلك المشكلات. فحتى لو قامت إسرائيل بالانسحاب فإنها ستظل هدفاً لكراهية العالم العربي والإسلامي. مع ذلك فإنها يجب أن تقوم بالانسحاب إلى خطوط معترف بها دولياً، لأن هذا الانسحاب هو الذي سيجعلها تتمتع بالمزايا الأخلاقية، والاستراتيجية، الديموغرافية التي ستمكنها جميعا من حماية نفسها.
لتوضيح ذلك نضرب مثالا، وهو ذلك المتعلق بانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان. فبعد انسحابها ، فإن حزب الله استمر في كراهيته لإسرائيل، وفي القيام بمضايقات على حدودها، ولكنه لم يقم أبدا بأي محاولة لغزو تلك الحدود.. لماذا؟. لأنه يعرف أنه لو فعل ذلك، فلن يكون لديه شرعية سواء أمام العالم، أو حتى في لبنان ذاتها للقيام بانتهاك هذه الحدود المعتمدة من قبل الأمم المتحدة، كما يعرف أنه إذا ما حاول ذلك، فإن إسرائيل ستكون قادرة على الانتقام منه باستخدام قوتها العسكرية الهائلة.
وإذا ما تناولنا المسألة من الزاوية الديموغرافية، فإننا نقول إن إسرائيل إذا لم تقم بالتخلي عن الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن الفلسطينيين سرعان ما سيتفوقون على اليهود عددياً.. وحينها لن يكون أمام إسرائيل من خيار سوى التحول إلى دولة تقوم على نظام الفصل العنصري، أو إلى دولة غير ذات أغلبية يهودية.
إلى ذلك، فإن انسحاب إسرائيل سوف ينتزع من أسوأ الزعماء العرب، الحجة التي تعللوا بها طويلاً لعدم الإقدام على الإصلاح، ومن ناحية أخرى سوف يؤدي إلى خلق مساحة إضافية لأفضل القادة العرب كي يمضوا قدما على طريق الإصلاح، كما أنه سيعطي الفلسطينيين في النهاية شيئا يستأهل منهم الحرص عليه وحمايته.
خلاصة القول : يجب على إسرائيل أن تنسحب من الأراضي التي تحتلها ليس لأنها ضعيفة، ولكن لأنها يجب أن تظل قوية.. ليس لأنها على خطأ ولكن لأن الصهيونية ببساطة هي قضية يؤدي الاحتلال إلى تقويضها من الأساس.. وليس لأن العرب سوف يرحبون بحرارة باحتضان إسرائيل الأصغر حجما، ولكن لأن إسرائيل الأصغر حجما، التي تعيش داخل حدود معترف بها دولي