عندما إنتهى اللقاء الثاني للحوار الوطني في مدينة مكة قبل حوالى إسبوعين من الآن, وخرج بجموعة من التوصيات في سبيل الإصلاح, كان السؤال حينها : ماهو موقف الحكومة من هذه التوصيات؟ بل ماهو موقفها من مسألة الإصلاح ككل؟ بعد إنتهاء اللقاء إستقبل ولي العهد السعودي, الأمير عبدالله, الذين شاركوا فيه, وإستمع إلى كلمات من بعضهم حول ماحدث في اللقاء. لكن الأمير لم يقل شيئا يستشف منه إجابة الحكومة على تلك التوصيات, أو أن هذه الإجابة ستعلن في وقت محدد. ثم جاء يوم الإربعاء الماضي ليلقي الأمير عبدالله كلمة خاصة خاطب بها المواطنين حول هذا الموضوع تحديدا. لم يحدث من قبل أن دخلت الحكومة السعودية, وعلى لسان ثاني مسؤل فيها.
إتصفت كلمة الأمير عبدالله بثلاث صفات: عامة, وشاملة, وحازمة. فهي عامة من حيث أنها أعلنت موقفا للحكومة عاماً, من دون تفاصيل أو محددات, من مسأة الإصلاح بشكل عام أيضا, من دون أن تعطي موقفا محددا من هذه القضية الإصلاحية أو تلك, أو من هذا المطلب الإصلاحي أو ذاك. وكانت كلمة الأمير شاملة من حيث أنها خاطبت المواطنين جميعهم, بما في ذلك فريقي الإصلاح, الليبرالي والديني, من دون تمييز, لكن من دون الإشارة إلى أي منهما بالإسم. وفي هذا السياق كانت المحاولة واضحة في أن تكون الكلمة متوازنة في مخاطبتها لأصحاب هذين الفريقين. وهذا شيئ جديد في الخطاب السياسي للحكومة السعودية. حيث جرت العادة من قبل على تجاهل الحكومة في خطابها للتيارات غير الدينية. هذه المرة اختلف الأمر. مثال على هذا قول الأمير مخاطبا الإثنين " إن أبناء هذا الوطن لا يحتاجون إلى من يعلمهم أمور الدين (من أصحاب التيار الديني), أو يزايد عليهم في أمور الدنيا (من الليبراليين)". مثال آخر قوله " إن الدولة ماضية بعون الله في نهجها الإصلاحي المدروس المتدرج, ولن نسمح لأحد بأن يقف في وجه الإصلاح سواء بالدعوة إلى الجمود والركود (من أصحاب التيار الديني), أو الدعوة إلى القفز في الظلام والمغامرة الطائشة (من الليبراليين)". في هذه الجملة تأكيد على إلتزام الدولة بالمضي في طريق الإصلاح. وهذه إستجابة واضحة لمطلب الإصلاح.
بل إن كلمة ولي العهد كلها كانت مداخلة تأتي من ثاني أعلى مسؤل في الدولة حول ما يموج به المجتمع من جدل وحوار حول الإصلاح. وهذا أمر آخر جديد وإيجابي, وهو أمر يجعل من الحكومة, بشكل أو بآخر, طرف في الحوار الدائر. لكن الصفة الشمولية المشار إليها, والصيغة الخطابية التي تعاملت بها الكلمة مع فريقي الإصلاح, أرادت أن تقدم طرف الحكومة على أنه طرف لا يتساوى مع الأطراف الأخرى, بل هو طرف فوق الجميع. ومن هنا تأتي صفة الحزم الثالثة في كلمة ولي العهد. فالكلمة كانت حازمة في مخاطبتها للجميع من دون تمييز, ولم تترك مجالا لخيارات أخرى غير ما تقدمه. رغم أن ما تقدمه يتسم بعمومية تتطلب الكثير من الإيضاح والتفصيل. وكمثال على صفتي الحزم والعمومية هو تأكيد الكلمة على أن الدولة " ماضية بعون الله في نهجها الإصلاحي المدروس والمتدرج", وتأكيدها من ناحية أخرى على أن " هذا الوطن لن يرضى أبدا أن يمس أحد كائنا من كان عقيدته الإسلامية بإسم حرية الرأي أو بأي إسم آخر". بتأكيد صفة الحزم هذه أرادت الكلمة أن تحتفظ الحكومة بدورها في أن تكون الطرف الذي يحدد كل ما يتعلق بمسألة الحوار, وبمسألة الإصلاح.
ماذا يعني أن تكون الحكومة طرف في الحوار, لكن فوق الأطراف الأخرى؟ يعني أن حاجزا, أو فاصلا يبقى بين الناس والحكومة. حاجز سياسي ونفسي, يمنع من تواصل كل طرف مع الآخر بشكل منفتح, وواضح ومباشر. نعم للحكومة إمتيازات وحقوق قانونية ودستورية لاتتوفر لغيرها من المؤسسات في المجتمع. وللحكومة كل الحق في أن تحافظ على هذه الحقوق والإمتيازات, وأن تنتظر من المواطنين إحترام هذه الحقوق والإمتيازات. لكن كل هذا, وضمن الإطار نفسه, لايمنع من أن تكون الحكومة طرف مباشر في الحوار مع الأطراف الأخرى, تأخذ وتعطي, ترفض وتقبل. وفي كل ذلك تحدد موقفها بشكل واضح ومحدد. الحكومة تنتظر من أطراف الحوار الآخرين أن يمارسوا دورهم بهذه الصيغة من الوضوح والمباشرة. ولهذا السبب بادرت إلى تبني فكرة الحوار, وإلى إنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني. والأجدر هنا أن تكون الحكومة ذاتها الأكثر تعبيرا عن روح المبادرة هذه, في أن تكون الطرف المباشر في الحوار الذي يلتزم بما يتطلبه هذا الحوار من وضوح وشفافية.
الإصرار على أن تكون الحكومة طرف في الحوار, لكن فوق الجميع, يعني أن الحكومة كنظام سياسي تحاول أن تتماهى, دون غيرها, مع الدولة كمفهوم. في حين أن الدولة كمفهوم أوسع وأشمل من الدولة, ومن ثم تشمل الجميع, وللجميع. الحكومة هي الجهاز التنفيذي للدولة, أو التجسيد المادي الذي لا غنى عنه هذه اللدولة. بهذا المعنى لا تستطيع الحكومة أن تختزل الدولة, رغم ما تتمتع به من حقوق وإمتيازات. والحقيقة أن هذه الحقوق والإمتيازات هي لخدمة الدولة وليس العكس. ومن هنا ضرورة أن يكون هناك مجتمع مدني, بمؤس