هناك أربع شخصيات رئيسية في الصراع العربي-الإسرائيلي أدركت أن المسار الحالي نحو السلام قد أصبح شيئاً لا سبيل إلى معرفة نتائجه، وأنه لا مهرب من العثور على مسار آخر ومختلف.
وقد توصّل "إيهود أولمرت" اليميني نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى خطة تقضي بانسحاب إسرائيلي أحادي الجانب من معظم الأراضي المحتلة. أما "أرئيل شارون" رئيس الوزراء الاإسرائيلي -وهو أيضاً غير المعروف بنزعاته إلى السلام- فقد أعلن أنه سيقوم بتفكيك بعض المستوطنات بغض النظر عن التوصل أو عدم التوصل إلى اتفاق. لكن أحمد قريع رئيس وزراء السلطة الفلسطينية أعلن
على نحو ينذر بالشؤم أن السلطة الفلسطينية، في حال عدم التوصل إلى حل يقضي بإقامة الدولتين،سوف تتبنى خطة تقضي بإقامة دولة واحدة ذات قوميتين. وقد أعلن الشيخ أحمد ياسين الزعيم الروحي لحركة المقاومة الاسلامية(حماس) أنه يميل إلى تفضيل وقف إطلاق النار إذا انسحبت إسرائيل إلى حدود عام 1967 وسمحت للاجئين الفلسطينيين بالعودة.
لكن هناك فئة تقول إن تلك الإعلانات ليست خططاً حقيقية وأنها ليست أكثر من بالونات اختبار، لأنها تتفادى المسائل التي تقف عقبة في طريق التنفيذ الحقيقي للحلول. وهناك أيضاً فئة تقول إن كل خيار يطرحه أحد الجانبين سيكون كارثة في نظر الجانب الآخر، ولذلك فإن تلك الخيارات بمجملها لن تكون خططاً بل تهديدات مبطنة. وهناك أيضاً فئة ثالثة تقول إن إدارة "بوش" لم توافق على أي من تلك الخطط - ناهيك عن عدم موافقة بقية أعضاء المجتمع الدولي- ولذلك لن تحظى هذه الخطط بفرصة النجاح.
ربما يكون كل ما قيل صحيحاً. لكن هناك حقيقة تقول أن مجرّد اقتراح هذه الخطط أمر يشكل علامة فارقة في هذه اللحظة المحبِطة من عملية السلام الشرق أوسطي المصابة بالجمود. ويوحي ذلك بأن قيمة الماضي آخذة في الانحدار وبأن قيمة البضاعة المستقبلية الممكنة آخذة في التصاعد. إننا في منطقة ينتابها شبح الماضي ويتعرض فيها الناس للقتل يومياً باسم الماضي، ولذلك ينبغي علينا ألاّ نهزأ ونسخر في لحظة بدأت فيها رموز الماضي المقدّسة باستخدام صيغ زمن المستقبل.
كانت هناك عوامل كثيرة ساعدت على إطلاق آليات التغيير هذه ووضعها على مسار التحرك. وهناك حقيقة هامة مفادها أن أي من طرفي النزاع لم يخرج منتصراً بعد أكثر من ثلاث سنوات من الوحشية، وهي حقيقة لعبت دوراً له شأنه. لكن هناك حقيقة أخرى هامة مفادها أن المعدل الطبيعي لزيادة السكان في إسرائيل في غضون 15 سنة سيؤدي إلى تناقص عدد اليهود إلى درجة أنهم لن يبقوا أكثرية سكانية ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط. وهناك أيضاً الحقيقة الهامة التي تقول إن الناس هنا قد سئموا وأصابهم الملل.(وقد تبين في استطلاع للرأي أجري منذ شهور أن ربع المشمولين بالاستطلاع قالوا إنهم يفكرون بالرحيل عن إسرائيل-وهي حقيقة لا يستطيع حتى السياسيون القساة أن يتجاهلونها.
على أن هناك عاملاً آخر أحدث تغييراً دراماتيكياً في قوة التغيير السياسي داخل إسرائيل والأراضي الفلسطينية، وتجسّده الوثيقة التي باتت معروفة باسم اتفاق جنيف. وتقضي خطة الاتفاق بإقامة دولة فلسطينية بحدود تطابق تقريباً تلك الحدود التي كانت موجودة قبل حرب عام 1967، كما تقضي بتقسيم مدينة القدس، وبتفكيك المستوطنات الإسرائيلية وبتخلي الفلسطينيين عن حق العودة.
وقد هبّ المعارضون من كلا الجانبين لمهاجمة الاتفاق وقالوا إنه يعكس أوهاماً ساذجة، لا بل إن البعض منهم اتهم كل طرف في الاتفاق بأنه متواطئ مع الأوغاد من الطرف الآخر. غير أن الاتفاق كان له أثرٌ على رغم ذلك.
وقال العقيد محمد دحلان، وهو أحد قادة حركة فتح في غزة، في إحدى المقابلات :" أدى اتفاق جنيف إلى إحداث تغييرات دراماتيكية في الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي. ولذلك يدور على جانبكم (أي الجانب الاسرائيلي) خلاف ونقاش حول الانسحاب، كما بدأ جانبنا جدلاً واسعاً حول حق العودة. لقد بدأت تظهر
على كلا الجانبين شقوق في ما كان ذات يوم محبوساً في سجن المحظورات الحديدي." ويرى "اولمرت" الاتفاق بعين السلبية، لكنه لا ينكر أهميته؛ وعندما سُئل عن سبب دعوته الآن إلى الانسحاب من الأراضي الفلسطينية، أجاب "أولمرت" مراراً وتكراراً بما معناه:إذا لم توافقون على اقتراحي الذي طرحته فسينتهي بكم المطاف إلى اتفاق جنيف.
ويبدو أن حاجة الطرفين العميقة إلى الأمل قد خلقت لحظة من التعقل والصواب. فالإسرائيليون لم ينخدعوا بالتركيز على "الخيانة" التي ارتكبها الأفراد الذين وقّعوا على اتفاق جنيف، بل بالتركيز على السؤال المتعلق بالثمن الذي سيكون الإسرائيليون ملزمون بدفعه إذا تم تنفيذ الاتفاق: الثمن طبعاً هو الانسحاب النهائي من كل الأراضي المحتلة مع تفكيك معظم المستوطنات اليهودية.
وبالمثل وعلى النحو ذاته، هناك بين الفلسطينيين جدل تركّز على التخلي عن حق العودة- وهو الثمن الرئيسي الذي من المقرر أن يدفعونه، إذ أوضح الاتفاق أن اللاجئين لن يكون لهم أي حق في العودة إلى أراضيهم في إسرائيل- وه