قيل في زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لتركيا، وبعد 58 عاماً هو عمر استقلال سوريا، الشيء الكثير ولكن ما لم يقل هو أن الزيارة كانت زيارة جار لجار· ففي التقليد الإسلامي أن الله أوصى بسابع جار، وفي التقليد العربي أن للجيرة حقوقاً واجبة· ومن هذا القبيل جاءت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لتركيا خالية من التوقيع على اتفاقيات في شؤون تفرضها الجيرة، وبرغم أن هذه الجيرة تخلف مشكلات طبيعية، وأبرزها مشكلات الحدود والمياه والاحتلال الأميركي للعراق·
ولعل المشكلة الأخيرة، أي الاحتلال الأميركي للعراق ونتائجه، كانت ولا تزال المشكلة الرئيسية الأكثر إلحاحاً، لهذا اجتمع وزراء خارجية الدول المحيطة بالعراق إضافة إلى مصر باعتبارها الدولة العربية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط في دمشق في شهر نوفمبر من العام الماضي، بعد اجتماعاتهم السابقة في اسطنبول والرياض وطهران وأكدوا على رفضهم أي إجراء يمكن أن يؤدي إلى تجزئة العراق وعلى احترامهم سيادة العراق واستقلال ووحدة أراضيه، كما أكدوا على حق الشعب العراقي في تقرير مستقبله السياسي·
ولقد رغب الرئيس السوري في أن يستمع من الجار التركي تأكيداً لهذا الموقف، بمثل ما رغب وزير الخارجية التركي في أن يستمع من الطرف الإيراني تأكيداً إيرانياً لهذا الموقف أيضاً في طهران ذاتها، في حين أن وزير الخارجية العراقي نفى رسمياً وجود أية نية لبعثرة العراق وتفكيكه، ولكن لابد من احترام إرادة الشعب العراقي إذا ما قرر إقامة نظام فيدرالي في بلده· وإذا كانت زيارة الرئيس السوري إلى تركيا >اختراقاً< للمستقبل فرسخت لمصالح مشتركة ولتغليب منطق التعاون والجيرة على منطق المواجهة وتفعيل ما يمكن الاتفاق عليه وإرجاء البحث في المشكلتين الخلافيتين وهما مشكلة الحدود والمياه· فإن مشكلة المياه ستكون الأكثر إلحاحاً في المستقبل، بالرغم من عدم معاناة سوريا مشكلة مائية ملحة بسبب عدد سكانها الحالي البالغ 17 مليوناً، سوى أن الزيادة الطبيعية للسكان في سوريا قد تقفز في المستقبل إلى أكثر من ذلك بكثير، وحينذاك تصبح مشكلة المياه ملحة وبخاصة أن >اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية< قد اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ 21/5/1997، ولكن تركيا، مذ ذاك، اعترضت بالتصويت السلبي على الاتفاقية باعتبار نهري الفرات ودجلة >عابرين للحدود< وليسا نهرين دوليين -من وجهة النظر التركية- فلا تنطبق عليها، وبخاصة أن الاتفاقية لا تتضمن المصطلح الذي استعملته تركيا·
ومن المعروف أن نهري دجلة والفرات يتبعان مشروع >غاب< التركي وهو مشروع يهدف إلى ري 1.7 مليون هكتار ويولد 26 مليار كيلوواط/ساعة من الكهرباء سنوياً ويتضمن بناء 22 سداً و19 محطة توليد كهرباء· وتبلغ تكاليفه حين انتهائه في عام 2005 حوالى 34 مليار دولار· ويعني هذا كله بالنسبة إلى سوريا والعراق أن تدفق نهر الفرات سينخفض من 28 مليار متر مكعب إلى 13 ملياراً، أي بنقصان 15 مليار متر مكعب· وكانت تركيا تعهدت في إطار البروتوكول السوري-التركي (1987) بأن يكون دفق الفرات عند الحدود السورية-التركية 500 متر مكعب/ثانية ثم اتفقت مع العراق (1990) أن يكون لسورية 40% وللعراق 60% من هذا الدفق· إلا أن تركيا حين ملأت سد أتاتورك -وهو سد رئيسي في مجموعة سدود المشروع- اضطرت إلى خفض الـ500 إلى 120 متراً مكعباً/ثانية لمدة شهر في مطلع عام 1990· وحينما لاحظت سوريا والعراق ظهور تلوث في مياه دجلة والفرات، عقدت اللجنة السورية-العراقية للمياه اجتماعاً في 15/2/1996 انتهى إلى تأكيد مبدأ القسمة العادلة والمقبولة لمياه الفرات بين الدول الثلاث، بالرغم من وجود لجنة ثلاثية فنية (من سوريا والعراق وتركيا) منذ عام 1983 هدفها تحقيق >اقتسام عادل< لمياه دجلة والفرات·
وإذا كانت المياه مشكلة سورية-تركية-عراقية، فإن موضوع الحدود السورية-التركية يشكل مشكلة عالقة بين الدولتين الجارتين، ذلك أن تركيا ضمت إليها في عام 1939 لواء اسكندرون· وكانت سوريا يومذاك تحت الانتداب الفرنسي، ولهذا وقعت فرنسا التنازل عن لواء اسكندرون مع تركيا· ولم تعترف سوريا بجميع الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعتها فرنسا نيابة عن سوريا في فترة الانتداب·
أجلت زيارة الرئيس السوري لتركيا هاتين المشكلتين، وغيرهما من المشكلات العالقة بين الدولتين الجارتين، إلى أوقات أخرى، وهدفت إلى معالجة المشكلات الأكثر إلحاحاً، وبخاصة الوجود العسكري الأميركي المحتل في العراق و ما يمكن أن ينتج عنه من تقسيم للعراق·