تشهد منطقة الخليج العربي هذه الأيام فورة من الاجتماعات والندوات التي تجمع صانعي القرار بالمفكرين والسياسيين· وقد عقدت خلال الأسبوع الماضي ثلاث ندوات رئيسية إحداها في الدوحة حول علاقات الولايات المتحدة بالإسلام، والثانية حول الخليج وتحديات المستقبل وعقدت في مدينة أبو ظبي، والثالثة عقدت في صنعاء حول الديمقراطية في العالم العربي ·وقد قيّض لي أن أحضر ندوة (أبوظبي) وأشارك في بحث فيها·
ويمثل الوضع الحاضر تحدياً لجميع دول المنطقة وعدد من الدول الأخرى التي لها مصالح في هذه المنطقة الحيوية من العالم· وتمثل هذه المنتديات سوقاً أشبه ما تكون بسوق عكاظ للأفكار والآراء والسياسات العامة· فالسياسيون يحاولون أن يعرضوا مواقف دولهم، وأن يدافعوا عنها· والمفكرون يحاولون تلمس الطريق وملامحها المستقبلية، أما الدول الكبرى وممثلوها فيحاولون إقناع الصفوة الخليجية بأن سياسات بلادهم تصب في الصالح العام لشعوب المنطقة وأهلها، وإن احتوت على كثير من آلام الغزو والاحتلال· والحقيقة أننا يجب ألا نبسط الأمور بمثل هذا التبسيط· فقد قابلت مفكراً أميركياً ويشغل منصب مستشار للسياسة الخارجية لـ(هوارد دين)، المرشح الرئاسي في الولايات المتحدة· وقد كتبت من قبل مقالاً ذكرت فيه أن الخطاب السياسي لهوارد دين يختلف عن الخطاب السياسي لبوش ومستشاريه· لذلك لم أفاجأ حين قابلت زميلنا الأميركي أن يكون موقفه معارضاً بشكل مبدئي لسياسات بوش والحزب الجمهوري في المنطقة العربية· والحق يقال، بأن الرجل مع أنه أستاذ ينتمي إلى الديانة اليهودية، إلا أنه رجل منصف، وسبق لي أن قرأت كتابه الذي كتبه في منتصف التسعينيات حول الجهاد والشركات المتعددة الجنسية (ماكجيهاد ) وهو كتاب جميل أعيد طبعه عدة مرات وترجم إلى حوالى 13 لغة، ولكنه للأسف، وحسب معلوماتي لم يترجم بعد إلى اللغة العربية·
وتقوم فرضية الكتاب على أساس أن العولمة الاقتصادية والثقافية التي تتبناها هذه الشركات قد خلقت رد فعل عنيفاً في معظم أرجاء العالم من قبل جماعات وطنية تعتز بثقافتها وقيمها، وتخشى أن تذوب هذه القيم أمام هذا الغزو الثقافي والسياسي الأجنبي· لذلك فإنه يقدم تفسيراً اقتصادياً سياسياً لمفهوم العولمة على النمط الأميركي أو الحركات الجهادية المعارضة لها·
طرح أحد المشاركين في المؤتمر مقولة مؤثرة تقول بأن ما نشهده اليوم من تحديات ليس إلا نتيجة مباشرة للغزو الأمريكي للعراق· وحسب قول هذا المشارك فإن دول المنطقة قد دفعت ثمناً غالياً نتيجة حروب المنطقة السابقة، وستدفع ثمناً لهذه الحرب· فالحرب العراقية-الإيرانية أفضت إلى تبخر معظم الوفر المالي الذي كانت تدخره دول الخليج في السبعينيات· وحرب تحرير العراق أرهقت ميزانيات دول المنطقة وجعلتها تصرف أموالاً هائلة في مجال الدفاع حتى تتقي شر صدام حسين، وتقبل بوجود أجنبي على أراضيها·
أما غزو الولايات المتحدة للعراق فقد نتج عنه إضعاف النظام السياسي العربي بشكل عام، وتغير شكل العلاقة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة·
وقد قدمت إحدى الأوراق المعروضة في المؤتمر طرحاً يرى بأن الصفوة السياسية في منطقة الخليج العربي تعاني ضغوطاً متكاثرة بعضها خارجي وبعضها الآخر داخلي· فالولايات المتحدة التي كانت تاريخياً تلعب دور الدولة المحافظة على النظام السياسي القائم قد غيّرت خطابها السياسي في أعقاب أحداث سبتمبر، وأصبحت لأول مرة تسعى إلى بث عدم الاستقرار في المنطقة، بدعاويها بتغيير الأنظمة السياسية إن هي لم تنجح في تبني النظام الديمقراطي· كما أن ما نشهده اليوم على الساحة العراقية من دعاوى لإيجاد نظام سياسي فيدرالي هو محاولة لإعادة هندسة الأنظمة السياسية في منطقتنا· فمعظم الأنظمة السياسية العربية بنيت على نظام الدولة المركزية، وهو النموذج الذي قدمته فرنسا في ثورتها قبل قرنين وصدّرته إلى معظم أنحاء العالم، بما فيه منطقتنا العربية، وها هي الولايات المتحدة تحاول فرض نظام سياسي جديد على الدولة العراقية المركزية، يأخذ بنظام فيدرالي بديل عن النظام المركزي القديم·
كما أن الهجمة الأميركية على العراق وتهديدها بقية دول المنطقة من إيران إلى سوريا ولبنان، قد نتج عنها حركات سياسية معارضة، تأخذ بالطابع الجهادي الإسلامي، وترى في نفسها الند المضارع لتنامي النفوذ الأميركي في المنطقة· غير أن عنف هذه الجماعات ليس موجهاً ضد الولايات المتحدة وحدها، إلا في العراق، بل موجهاً ضد شعوب المنطقة وقاطنيها من المقيمين على أراضيها· لذا فإن بعضاً منها قد تحول بإرادة أو غير إرادة إلى حركات إرهابية، وتحت جلباب إسلامي· وهكذا فإن دول الخليج العربية تواجه ضغوطاً متوازية بعضها من القوة المهيمنة الخارجية، وأخرى من القوى المناوئة للولايات المتحدة، في الداخل· ولهذا يتوجب على الصفوة السياسية الخليجية أن تفكر بعمق في وسائل متعددة لدرء الأخطار والتهديدات الخارجية، وكذلك الحال مع التهديدات الداخلية·
كذلك فإن الولايات المتحدة نفسها، وبالرغم من القب