يبدو أن حوار الحضارات لن يفيد إن لم يرتبط هذا الحوار أساساً بالاحترام المتبادل بين أطراف الحوار بحيث يفهم كل طرف حضارة الطرف الآخر، وأقصد بذلك أنه ما دامت هناك مجموعة من العقول الغربية الكارهة والحاقدة على العرب والمسلمين تمارس هواية الحقد والكراهية بشكل مستمر وتختصر حضارة العرب والمسلمين في مجموعة من (التهم الباطلة) والتي تهدف من ورائها إلى إلغاء الطرف الآخر، فإن فجوة الحوار سوف تزيد اتساعاً كل يوم بل كل ساعة· وهذا يتضح تماماً في الأصوات الغربية (الزاعقة) والكريهة التي تظهر كل يوم، وآخرها المقال الذي كتبه الإعلامي البريطاني (روبرت كيلروي) في صحيفة (الصنداي اكسبرس) تحت عنوان (لا ندين للعرب بأي شيء) والذي ألغى من خلاله شيئاً اسمه العرب أو الحضارة العربية عندما قال (إن العرب لم يقدموا أي شيء للحضارة الإنسانية أو الغربية)، ووصف العرب بأوصاف وعبارات لا تدل إلا على كم من مخزون الكراهية والحقد المتراكم في بعض العقول الغربية ، عندما قال (إنهم مفجرون وانتحاريون وقاطعو الأوصال البشرية وقامعو النساء)···) · وأضاف إن الدول العربية لا تعد أمثلة ساطعة للحضارة ولا تقدم أي مساهمات على صعيد خير وسعادة العالم باستثناء النفط، علماً بأن الغرب هو الذي اكتشفه وهو ينتجه ويدفع ثمنه وأنه يتعين على العرب أن يركعوا أو يشكروا الله على كرم وجود الولايات المتحدة الأميركية···)·
هذا المقال يأتي ضمن سلسلة الكتابات الغربية الحاقدة والهجومية التي برزت بقوة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر· وهي محاولة لتزوير وقائع التاريخ وفق نظرية (صراع الحضارات) والحالة الهستيرية والارتباك الفكري الذي يعيشه الغرب·
الحضارة العربية في غنى من أن يعترف بها واحد من أمثال (روبرت كيلروي)، فهي باعتراف الغرب نفسه حضارة قدمت للغرب ما لم تقدمه أية حضارة لهم؟ والرد على هذا (الهذيان والخلط المسموم والعبث الفكري الرخيص) والذي يتجاوز أخلاقيات الحوار الحضاري السليم سهل وميسور من خلال ما كتبه الغرب عن العرب والحضارة العربية· وهناك الكثير من المؤلفات حول هذا الموضوع، ولكنني أكتفي بأهم كتاب كتب حول هذا الموضوع وهو كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) للمستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) وهي دراسة موضوعية شاملة وعميقة تتناول انجازات العرب الحضارية والعلمية، خاصة ما قدمه العرب للغرب والتي لا زالت حتى اليوم تمثل القاعدة الرئيسية والأساسية في تقدم الغرب·
تقول المؤلفة: إن العقل العربي الدقيق في تفكيره السريع في استيعابه للمسائل التي يغلب عليها الجفاف والخشونة هو أول من طور فن الحساب وجعل منه فناً صالحاً للاستعمال اليومي ومفيداً لبقية العلوم حتى أصبح فن الحساب الركيزة الأساسية لفن الحساب في بلاد الغرب· ولم يقتصر دور الخوارزمي في تعليم الغرب على كتابة الأعداد والحساب فقد تخطى تلك المرحلة إلى المعقد من مشكلات الرياضيات، وما زالت القاعدة الحسابية حتى اليوم تحمل اسمه كعلم من أعلامها· ولولا الأرقام العربية التي تعلمها الأوروبيون من العرب لما كان هناك دليل تلفون أو قائمة أسعار أو تقرير للبورصة ولما وجد هذا الصرح الشامخ من علوم الرياضيات والطبيعة والفلك ولما وجدت الطائرات التي تسبق الصوت أو صواريخ الفضاء· إن أرقام العرب وحسابهم وجبرهم وعلمهم وبصرياتهم الدقيقة، كل ذلك أفضال عربية على الغرب ارتفعت بها أوروبا إلى مكانة جعلتها تتزعم العالم اليوم·
إننا نقف مندهشين متعجبين أمام تطور فن الصواريخ العظيم دون أن نسأل أنفسنا: إلى من ندين بهذا الاختراع؟ والحق يقال إنهم العلماء العرب·
إن من بين خمسمائة وأربعة وثلاثين عالماً فلكياً حفظ التاريخ أسماءهم يعتبر العالم العربي موسى بن شاكر وأولاده أكثر من قدم خدمات لتعليم أوروبا الجاهلة· لقد أدهش العلماء العرب العالم بالحرية الموضوعية والشجاعة العلمية وهم من أدخلوا البريد وصناعة الورق وفن تنظيم الحدائق وطرق الري المختلفة إلى أوروبا، وكان الغرب يقلدهم في كل شيء حتى في صورة لبس الملابس· إن العرب أساتذة العفة والطهارة، علموا الأوروبيين كيف يخجلون من عدم نظافتهم وكيف يرون في الجسم العاري (جرثومة) الشر والغواية وأساس الجشع والرذيلة· والطب العربي كان هدية العرب إلى أوروبا، وكان الطبيب العربي ذا سمعة عالية في مجالات طبية عديدة· لقد أدخلوا النور والترتيب على تراث القدماء وقدموا العلوم في أشكال سهلة وصاغوا في لغتهم الحية تعابير علمية مثالية···)·
حوار الحضارات يمثل بالنسبة لنا اليوم ضرورة انسانية ماسة، لكن بشرط ألا يكون هذا الحوار قائماً على التزوير وسوء الظن والتضليل والتعالي والعنصرية، بل يجب أن يكون وفق تفاهم فكري وثقافي وحضاري مشترك وسليم يهدف في النهاية إلى تحقيق عملية السلام والمحبة بين الحضارات·