مع تداعي التصريحات من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني حول التحركات المنفردة لحسم النزاع أصبح واضحاً لدى المراقب المدقق أن كل طرف يحاول الضغط على الطرف الآخر ليحصل منه على تنازلات بشأن تطبيق (خريطة الطريق) وهي الخطة الوحيدة التي يعترف بها العالم ممثلاً في الرباعية الدولية بزعامة الولايات المتحدة.
بدأت حرب التصريحات بإعلان شارون عن نيته تطبيق خطة الفصل من جانب واحد اعتماداً على الجدار الفاصل الذي يواصل بناءه· وكان المعنى الصريح الذي تلقاه الفلسطينيون أن شارون سيقرر حدود التسوية النهائية وسيفرضها في إطار رؤيته لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على نصف الضفة الغربية ومعظم قطاع غزة· وجد الفلسطينيون أنفسهم أمام تصريح لا ينطلق من فراغ بل يستند إلى وقائع تتبلور على الأرض وترسمها ظلال السور العازل· وفي تقديري أن هذا التصريح من جانب شارون قد أثار اليأس الفلسطيني وتلفت رئيس الوزراء أحمد قريع حوله باحثاً عن نجدة عربية أو تدخل دولي لوقف زحف السور الذي يلتهم كل يوم جزءاً من الضفة فلم يجد الرجل ما يعينه لإعادة شارون إلى مسار (خريطة الطريق).
من هنا فجر أحمد قريع قنبلته عندما وقف في قلقيلية وخلفه السور الإسرائيلي ليعلن أن خطة الفصل التي طرحها شارون من جانب واحد تجعل الفلسطينيين يتخلون عن فكرة دولتين ويعودون إلى فكرة الدولة العلمانية الواحدة التي تضم العرب واليهود معاً· قبل أن نتوقف لبحث أصول الفكرة ودوافع طرحها ودلالته كخيار فلسطيني علينا أن نتذكر أن الإسرائيليين سارعوا إلى رفضها بل واتهموا أحمد قريع بأنه يعود عبر هذا الطرح إلى فكرة إبادة إسرائيل· كذلك علينا أن نتذكر أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول سارع إلى رفض فكرة الدولة ثنائية القومية معلناً أن الولايات المتحدة لا تعترف سوى بفكرة الدولتين المستقلتين وبـ(خريطة الطريق)· إذا ما عدنا إلى أصول الفكرة الخاصة بدولة واحدة ودوافع أحمد قريع من طرحها، فإنني أعتقد جازماً أن الدافع المباشر كان توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة الصامتة على مخطط شارون لالتهام الضفة بواسطة السور· إن العودة الفلسطينية لفكرة الدولة ثنائية القومية بعد أن تخلى عنها المجلس الوطني الفلسطيني في دورته لعام 1974 بعد حرب أكتوبر تعني أن أحمد قريع قرر أن يطلق انذاراً للرئيس بوش صاحب مشروع إقامة دولة فلسطينية مستقلة· إن فحوى الانذار يقول إن الفلسطينيين يتخلون عن مشروع بوش بعد أن بينت لهم الوقائع أن هذه الدولة ستقوم على نصف الضفة بعد أن يلتهم شارون النصف الآخر· في تقديري إذاً أن تصريح أبوقريع هو رسالة احتجاج وإنذار للرئيس بوش شخصياً بأن مشروعه على شفا الانهيار وأن التاريخ سيسجل أكبر انتكاسة في عهده لخيار الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل الضفة وغزة· وفي تقديري أن الرسالة الإنذارية قد وصلت كاملة الأبعاد إلى إدارة بوش بدليل مسارعة باول إلى إعلان تمسكه بمشروع رئيسه·
إن عمق الانتكاسة يتبين بصورة أوضح إذا علمنا أن الخيار الفلسطيني الأصل الذي تمسكت به منظمة التحرير الفلسطينية حتى عام 1974 كان خيار الدولة ثنائية القومية على كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر· وإذا علمنا أن المجلس الوطني الفلسطيني قد أكد في دورة عام 1968 بعد قبول الدول العربية المهزومة في يونيو 1967 لقرار مجلس الأمن رقم 242 تمسكه بخيار الدولة الديمقراطية فإن عمق الانتكاسة سيزداد وضوحاً· ذلك أن الفلسطينيين أدركوا في ذلك الوقت أن قبول الدول العربية بالقرار الدولي يعني تخلي النظام الرسمي العربي عن مهمة تحرير كامل التراب الفلسطيني من خلال الاعتراف بوجود إسرائيل· إن القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في 22 نوفمبر 1967 ينص على بندين· أولهما موجه لإسرائيل وينص على انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من أراضٍ احتلت في الصراع الأخير· وثانيهما موجه إلى الدول العربية وينص على إنهاء كل دعاوى أو حالات الحرب واحترام والاعتراف بسيادة كل دولة في المنطقة ووحدة أراضيها واستقلالها السياسي وحقها في الحياة داخل حدود آمنة ومعترف بها· معنى القرار إذاً أن الدول العربية قررت بموافقتها عليه الاعتراف بسيادة إسرائيل والتخلي عن مطلب منظمة التحرير في دولة على كامل الأرض الفلسطينية·
وإذا ما واصلنا التنقيب في التاريخ لاكتشاف عمق النكسة التي أراد أحمد قريع تعليقها برقبة بوش لاكتشفنا أن المجلس الوطني الفلسطيني اعتبر في دورة 1968 قرار مجلس الأمن المذكور منافياً للحقوق الفلسطينية على أساس أنه يغفل ذكر الطرف الفلسطيني وحقوقه السياسية الثابتة في فلسطين· من هنا أكد المجلس في الدورة نفسها أن هدف النضال الفلسطيني هو إقامة مجتمع ديمقراطي حر في فلسطين· وفي الدورة التالية المنعقدة عام 1969 أضاف المجلس وضوحاً أكثر لهدف النضال عندما نص على أن هدف الثورة الفلسطينية هو تحرير كامل التراب الفلسطيني تحريراً شاملاً وأكد إصرار الشعب على المضي في ثورته إلى أن يتم تحقيق النصر وإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية البع