قبيل وأثناء وبعيد خطاب أرييل شارون (التاريخي) في (مؤتمر هرتزيليا)، انفجر الحديث مرة إضافية حول نظرية أو فرضية: (شارون الجديد!! فمن قائل إن التسريبات السابقة والكلمات اللاحقة لشارون عادت فأكدت أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قد استمر في عملية (تحوله)، إن لم يكن قد (أكمل) تلك العملية، مفارقا (شارون القديم) ... إلى ... (شارون الجديد)! ومن الاتجاه المعاكس، كان ثمة من هزأ من أصحاب وجهة النظر الأولى، مؤكدا بأن (شارون هو شارون)، وأن جوهر موقفه القديم لا يزال على ما كان عليه، وأن التغير في التكتيك عنده لا يعني، بل يجب أن لا يعني، حدوث التغير في الاستراتيجية الشارونية! وبين هذين الطرحين، ثمة حقائق بارزة باتت جلية، وهي -بمجموعها الإجمالي- تصل إلى ما يشبه (القول الفصل) في هذا الجدل القديم/الجديد. فما هي أبرز تلك الحقائق؟ وما هو ذاك الاستخلاص القريب من القول الفصل؟
من الحقائق الجلية، لكن البديهية، أن شارون بصفته (زعيم المعارضة) أو (أحد أبرز زعمائها) يختلف -ولو لفظيا وتكتيكيا- عن شارون (ملك إسرائيل) المنتخب بأعلى الأصوات تاريخيا، ويختلف أيضا، بالتالي، عن شارون في موقع المسؤولية: (رئيس وزراء) الدولة العبرية! ومن الأمثلة الكاشفة لذلك أنه لم يعد يصرّ (علانية على الأقل) على مقولته الممجوجة إن (الأردن هو فلسطين) وإن (مكان الدولة الفلسطينية هو الأردن)! كذلك، فإن شارون يدرك بأن مياهه كثيرة قد جرت تحت الجسر منذ التوقيع على (اتفاق المبادئ في أوسلو) وما أعقبه من بروتوكولات تنفيذية، ومن متغيرات على الأرض. فمع اعتقاده الراسخ بأن (أوسلو كان كارثة لإسرائيل) مع تخطئة عملية(السماح بعودة عرفات، وبإقامة السلطة الفلسطينية) (وفقا لتصريحاته السابقة في زمن المعارضة) فإنه لم يعد يكرر (علنا على الأقل) مثل هذه القناعات وإن كان -بالتأكيد- يتعامل مع المتغيرات ليس على قاعدة القبول بها بقدر ما يحاول التحايل عليها. وكذلك الحال، مع قبوله (اللفظي على الأقل) بمبدأ (الدولة الفلسطينية)، وبالتالي موافقته على (الإنسحاب من أجزاء من أرض إسرائيل التاريخية)، بل وحتى إزالة ((إعادة موضعة) بالتعبير الجديد) لبعض المستعمرات/ (المستوطنات) الصهيونية في الضفة الغربية! وكل ذلك، يأتي -طبعا- في سياق مراعاة ضغوط الوضع الداخلي الذي أصاب (لأسباب متنوعة) سمعة ورصيد شارون في الصميم وهز أسس الثقة بقيادته، إضافة -قطعا- إلى مراعاة المناخ الدولي المؤيد لفكرة السلام المؤسس على مقايضته بالأرض، ولفكرة الدولة الفلسطينية اللتين استجدتا في سنوات انتقال شارون من المعارضة إلى الحكم، وتحديدا المراعاة الخاصة جدا لمبدأ عدم (الاصطدام الاستراتيجي) مع مصالح ومواقف الولايات المتحدة الأميركية -الصديق الصدوق لإسرائيل، والحليف الذي ما قبله ولا بعده حليف للدولة الصهيونية! إذن، ما هي حقيقة مدلولات الخطاب (التاريخي) الأخير لشارون الذي أعاد الصخب لحركة الجدل حول شارون (الجديد) وشارون (القديم) وذلك من واقع الاستخلاصات الرصينة التي استقرت إسرائيليا وعالميا بعد أن هدأ الغبار الذي أثارته تلك التصريحات؟
انحسم النقاش إسرائيليا وعالميا لمصلحة القول بأن شارون في خطته من أجل (الفصل أحادي الجانب) لم تكن بمثابة (غصن زيتون) يقدمه للجانب الفلسطيني! بل إن ثمة ترجيحا لاعتبار خطة شارون نوعا واضحا من (التسوية المفروضة) إسرائيليا قائمة على (فلسطين المبتورة المفصولة بجدار من الإسمنت والحواجز الأخرى)! وشارون حين وعد بـ(انسحابات) معينة وبـ(إعادة موضعة) لمستعمرات/(مستوطنات) لم يحددها، وبـ(التخفيف) عن (السكان الفلسطينيين)، إنما كان يشتري وقتا، ويحاول امتصاص تزايد التململ (وأحيانا الغضب والنقمة) في الشارع الإسرائيلي الذي لم ير شارون -بعد انقضاء ألف يوم على حكمه- يفي بوعده القاضي (إنهاء الانتفاضة في مائة يوم)، مع تفاقم الأزمة السياسية حيث لا مشاريع مطروحة، الأمر الذي أثار انتقادات و(تمردات) ساطعة من المؤسسة العسكرية/الأمنية الإسرائيلية (السابقة والحالية) علاوة على الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، ناهيك عن استمرار مشاعر القلق والخوف التي خيمت على المجتمع الإسرائيلي طوال سنوات الانتفاضة. وفي الوقت ذاته، وجدنا بعض المسؤولين الأوروبيين، وفي الطليعة منهم بعض المسؤولين الأميركيين (وهذا -طبعا- مؤشر أهم) يؤكدون أن شارون قد أكد لهم (قبل إلقاء الخطاب) أن الخطوات الانسحابية الإسرائيلية لا تشترط مقابلا فلسطينيا وأنها تأتي في (سياق تنفيذ خطة الطريق) ولا تتقصد تدميرها، وبالتالي -يستخلص هؤلاء- أن خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي تنطوي على اتخاذ (إجراءات واردة في خطة الطريق لم تنفذها إسرائيل من قبل) و(أن هذا الأمر -من منظور الوعد بعدم ضرب خطة الطريق- (يشكل تطورا إيجابيا في بعض أجزائه) بحيث يساعد في تشجيع بدء المفاوضات المعطلة بين رئيسيّ الوزراء الفلسطيني والإسرائيلي! لكن هذا كله إنما يشكل الوجه الأول (المتفائل) لوجه العملة ذاتها! فما هي معالم الوجه الثاني لتلك العم