إن صح أن الكتاب والمفكرين الإغريق قد اتفقوا يوما على شيء، وهو أمر يثور حوله الكثير من الخلاف والجدل، فهو شيء واحد ليس بعده ولا قبله: إن السبيل الوحيد لتحقيق العدل السياسي في شتى المدن الإغريقية، هو العقل والتفكير. تلك كانت إحدى درر التراث الفكري التي خلفتها الحضارة اليونانية للبشرية عموما، وللإنسان الغربي بصفة خاصة. في كتابه هذا الذي نعرض اليوم، يقول المؤلف تشارلس فريمان، إن هذه القناعة الراسخة والثقة التي لا تتزعزع التي وضعها المفكرون الإغريق في قدرات الذهن البشري قد تم محوهما بالكامل، خلال الخطاب السياسي لتلك القوى الظلامية المعادية للإنسان والفكر، التي أحكمت قبضتها وفرضت نزعتها تلك طوال القرنين الخامس والسادس الميلاديين في أوروبا. وقال إن نتيجة ذلك أن غرقت أوروبا في لجة من الدجل والشعوذة والظلام، استمرت لألف عام بالتمام والكمال. عدد المؤلف ثلاثة أسباب رئيسية أدت لاضمحلال الفكر الغربي وهي: الهجمة الظلامية الشرسة على تراث الفكر اليوناني الفلسفي، تبني النزعة الإفلاطونية من قبل علماء اللاهوت المسيحيين، وتعزيز القبضة الأرثوذوكسية من قبل الأباطرة، الذين كانوا في أشد الحاجة لكل ما يعينهم على إحكام قبضتهم، والحيلولة دون انفلات زمام الأمور من بين أيديهم.
يقول المؤلف إن هدف النظام السياسي في نظر الفلاسفة الإغريق، هو الفضيلة. وعليه فإن الدافع الذي يدفع البشر لإنشاء نظام سياسي ما، ليس هو أن يعيشوا فحسب، بل أن يعيشوا حياة لائقة. لكن وبعد أن قويت شوكة المؤسسة الدينية المسيحية -سيما التيار المتزمت منها- تحولت هذه المؤسسة إلى غاية بحد ذاتها، يعيش ويتنفس الناس من أجلها كل يوم. أي أنها أصبحت (فضيلة) بالمعنى الديني والأخلاقي معا. كان طبيعيا أن تتحول طاعة المؤسسة المسيحية الكنسية، وكذلك السلطة السياسية الناشئة عنها، إلى أعظم عمل يقوم به الإنسان في أوروبا ذلك العصر. غير أن تلك السلطة المركزية قد تفتتت إثر سقوط واضمحلال الإمبراطورية الرومانية، التي كانت بمثابة تجسيد ديني سياسي لتلك المركزية.
في هذا الكتاب، يتابع المؤلف تتبعه الشيق لأصول ومنابع الفكر اليوناني، وآراء الفلاسفة الإغريق حول النظام السياسي، واهتمامات واتجاهات هؤلاء ا لفلاسفة من إفلاطون وتهويماته وتأملاته الفلسفية ذات النزعة الروحانية التصوفية، وصولا إلى أرسطو وتساؤلاته التجريبية العقلانية حول طبيعة الوجود المادي. ضمن ذلك يعيد المؤلف رواية قصة صعود النجم العسكري للأسكندر الأكبر، وتغلبه على المدن اليونانية التي أنهكتها الحروب وشلت قدرتها، وكيف جرى استيعاب تلك المدن والدويلات الصغيرة في كيان الإمبراطورية الرومانية التي خلفت الحضارة اليونانية. الاختلاف الذي حدث في هذا الانتقال الجديد هو عسكرة الحياة المدنية في الدولة اليونانية القديمة، وإضفاء طابع قتالي عليها. وقال المؤلف إن المجد العسكري للدولة الرومانية، كاد يطغى على كل ما عداه، بعد أن حل في أوروبا عصر الجندية المنتصرة، والعسكرية الصانعة للفكر والحياة.
غير أن أكبر وأميز خدمة يقدمها الكاتب للقارئ العادي خلال كتابه هذا، هي متابعته الدقيقة لنمو وتطور الأصولية الدينية المسيحية أو ما يسميه (الدوغما المسيحية) التي استغرقت مسيرتها ما يربو على أربعة قرون كاملة من التاريخ الأوروبي في العصر الوسيط. وخلال هذا الرصد، يلقي المؤلف الضوء على تنوع وتعدد المعتقدات والآراء الدينية التي شهدتها أوروبا في ذلك العصر، حيث تدفقت إليها تلك الأفكار والمعتقدات من كل من شمالي إفريقيا والشرق الأوسط وصولا إلى أواسط أوروبا. بين المؤلف أيضا أن ما نراه من نهج كاثوليكي في التدين المسيحي المعاصر، لم يكن له وجود بعيد في التاريخ، ولم يكن شائعا مثلما هو الحال اليوم. ورد المؤلف بعض التشدد الأصولي الذي طرأ على المسيحية إلى عدة عوامل، من بينها سوء بعض التراجم التي حدثت من اللغات الإغريقية القديمة إلى اللاتينية. وفي هذا السياق، أوضح المؤلف مدى قدرة الترجمة على تشويه النصوص، وتحريف معانيها، بحيث يكون ناتجها الفكري النهائي مخالفا تماما للأصل.
وإلى جانب تعدد الأصول والمبادئ الفكرية للعقيدة المسيحية، يتيح الكتاب للقارئ فرصة التعرف على الدراسة المقارنة بين ثراء وتعدد الأفكار التي سادت مجتمع المدن والدويلات الإغريقية القديمة، وسعة خيال وأفق الإمبراطورية الرومانية الكوزموبوليتانية، قياسا إلى ضيق صدر الأصولية المسيحية المتزمتة بالمعتقدات الروحية المحلية الضاربة في جذور الثقافات الشعبية العامة آنذاك. وقال إن الحرب التي شنتها الأصولية المذكورة على تلك المعتقدات، كان لها أثرها في تقوية شوكة الدوغما المسيحية، فضلا عن تعزيز سلطتها الدينية الفكرية، وجمع ثروات هائلة على نطاق القارة الأوروبية بأسرها.
وعلى الرغم من أن كتاب فريمان يكتسب أهميته من ناحية عمق التحليل الذي قدمه لظاهرة التشدد والأصولية في التجربة المسيحية، وما يترتب على ذلك من أن الأصولية ليست ظاهرة خاصة ومفصلة على