بعد أن استقبل شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي أعلن في مؤتمر صحفي مشترك عقده مع الوزير عن أمرين مبدأيين: الأمر الأول هو أن مسألة الحجاب بالنسبة للمرأة المسلمة فرض إلهي، وإذا قصّرت في أدائه حاسبها الله على ذلك·
وقبل الانتقال إلى الأمر الثاني، لابد من التوقف أمام عبارة (حاسبها الله)· فإمام الأزهر لم يقل حاسبها هذا الشيخ أو ذلك التنظيم أو حتى الدولة· فلأن العبادة لله وحده فإن كل شأن من شؤون العبادة هو شأن بين الانسان وخالقه· فالله وحده يجزي وهو وحده يحاسب ·
أما الأمر الثاني الذي أعلنه الإمام طنطاوي فهو إنه إذا كانت المرأة المسلمة في غير دولة الإسلام كفرنسا مثلاً، وأراد المسؤولون فيها أن يقرروا قوانين تتعارض مع مسألة الحجاب للمرأة المسلمة فهذا حقهم· وردد الإمام عبارة هذا حقهم ثلاثاً للتأكيد عليها·
لقد اعترض علماء في مصر ودول عربية عديدة أخرى على اجتهاد إمام الأزهر· وذهب بعضهم في اعتراضه إلى حدّ النيل منه شخصياً· وهذا أمر مناف لأخلاقية الاختلاف في الإسلام· فالقاعدة الإسلامية هي أن من اجتهد وأصاب فله أجران· أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحق· وأن من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، هو أجر الاجتهاد، ولا يؤثم على خطئه·
إن التباين في وجهات النظر بين إمام الأزهر ومعترضيه حول موقفه من التوجه الفرنسي لمنع الحجاب في المدارس الفرنسية يعود إلى أن المعترضين يخشون أن يؤدي قبول المنع إلى تشجيع فرنسا وسواها من الدول الغربية التي تتواجد فيها أقليات اسلامية على اتخاذ مزيد من القرارات التي تقيّد حرية الممارسات الدينية الإسلامية وتفرض قيوداً على الشعائر المتلازمة معها· وهم يرون أن الاعتراض الآن وبقوة قد يحول دون التعرّض إلى ما هو أسوأ في المستقبل· غير أن للإمام طنطاوي وجهة نظر أخرى انطلق منها في تحديد موقفه، وهي أن العالم الإسلامي مستهدَف وانه يتعرّض لحملات الاساءة والتشويه منذ ما قبل جريمة 11 سبتمبر 2001 وخاصة ما بعدها· وأن الحكمة تقضي أن يتعامل المسلمون مع الدول والشعوب غير الإسلامية بالتي هي أحسن لتجنّب مضاعفات هذه الحملات واحتوائها، ومن ثم لتفنيدها· وهو يرى كما توحي الفتوى التي اتخذها أن الاستجابة لرغبة الحكومة الفرنسية بالتخلي عن الحجاب في المدارس الفرنسية فيه ضرر، ولكن هذا الضرر يحجب ضرراً أكبر وهو توسيع رقعة استعداء الإسلام والمسلمين· وفي مقاصد الشريعة فإن ذلك جائز·
في الثالث من أكتوبر أول 2001 نشرتُ مقالة في جريدة (النهار) تحت عنوان (حول فقه سلوك الأقليات الإسلامية في المجتمعات الغربية)· وقد أشرتُ في تلك المقالة إلى الملاحظات المبدأية الست التالية:
أولاً: يتمركز الفقه الإسلامي الأصولي حول محورين أساسيين· المحور الأول هو تعامل المسلم مع المسلم· والمحور الثاني هو موقف الإسلام من غير المسلمين في المجتمع الاسلامي· وهذا يعني أن الثروة الفقهية الإسلامية ترسي القواعد والنظريات إما لمجتمع إسلامي صافٍ أو لمجتمع ذي أكثرية اسلامية مطلقة·
ثانياً: إن الحاجة إلى تنظير فقهي يراعي وجود أقليات إسلامية في مجتمعات اكثريتها الساحقة من غير المسلمين هي حالة حديثة لم تعترض الفقهاء الاقدمين، وبالتالي لم يجد أولئك الفقهاء في زمانهم حاجة إلى الاهتمام بها· ولذلك فإن الفقه الإسلامي المعاصر في تعامله مع هذه المستجدات لا يجد الكثير من السوابق يقيس عليها صياغة أحكامه الجديدة والمستقبلية·
ثالثاً: إن الأقليات الإسلامية في المجتمعات وفي الدول غير الإسلامية هي على نوعين: يتشكل النوع الأول من أهل هذه المجتمعات ومن مواطني هذه الدول إثنية ولغة وعادات وتقاليد· أما النوع الثاني فيتشكل من مهاجرين لجأوا إلى هذه المجتمعات والدول، أي أنهم هاجروا من ديار الإسلام إلى ديار غير المسلمين، مما يعني أن هجرتهم اقتصادية -اجتماعية أو ثقافية- تعليمية، أي أنها هجرة غير دينية·
رابعاً: عندما يهاجر غير المسلم إلى دولة اسلامية للعمل أو للاستيطان فإن في الفقه الإسلامي ثروة ضخمة من القواعد والنظريات، ومن التطبيقات العملية التي تؤكد على حقوقه وواجباته· ومن أهم هذه الحقوق حقّه في ممارسة شعائره الدينية إذا كان من أهل الكتاب بكل حرّية· وحقه في الاحتكام إلى شريعته (وليس إلى الشريعة الاسلامية) في شؤونه الخاصة من زواج وطلاق وإرث وما إلى ذلك· بل حتى حقه في انتاج وشرب الخمرة المحرمة على المسلمين· إلا أن من واجباته مراعاة مشاعر المسلمين في ممارسة هذه الحقوق المحرمة على الأكثرية، ولكن عندما يتعلق الأمر بحقوق وبواجبات المسلم في المجتمع غير الاسلامي، فإننا نواجه فراغاً فقهياً كبيراً·
خامساً: هناك اختلاف كبير بين الدين شريعة وفقهاً وبين التقاليد· فالتقاليد الاجتماعية ليست جزءاً من الدين· والتمسك بالتقاليد لا يعني تمسكاً بالدين· ومن التقاليد ما قد يكون على نقيض مع الدين· وإذا كان التمييز بين الدين والتقاليد الاجتماعية أمراً ضرورياً في المجتمعات الإسلامية نفسها، فإنه يكون أكثر ضرورة ح