شتان بين مشهد العلاقات السورية - التركية الآن وما كان عليه في أكتوبر 1998 عندما تصاعدت الأزمة بين الدولتين ووصلت إلى حافة الهاوية قبل أن تنجح الوساطة المصرية في نزع فتيلها في آخر لحظة· تحول المشهد من النقيض إلى النقيض..
وما أكثر الدروس التي يمكن أن نخرج بها من تقويم مسار العلاقات السورية - التركية خلال السنوات الأخيرة وتحولها من ذروة الصراع إلى قمة التعاون، ومن العداء الحاد إلى الصداقة الكاملة·
وما يعنينا هنا في المقام الأول هو الدروس المتعلقة بموقف سوريا في هذا السياق واداؤها السياسي كما يتبدى من طريقة ادارتها للعلاقات مع تركيا· فمن هذه الدروس ما يمكن أن يفيد في ترشيد قسم لا بأس به من العلاقات العربية - العربية، ومن ثم في إصلاح النظام العربي الرسمي وتطوير تفاعلاته في اتجاهات أكثر إيجابية·
ويمكن الحديث عن نوعين رئيسيين من الدروس في هذا المجال أحدهما يتعلق بحسابات المصالح والآخر يتصل بتقدير المواقف· ينصرف النوع الأول إلى الكيفية التي تحسب بها دولة ما وجود مصلحة لها من عدمه في العلاقات مع دولة أخرى، وحجم هذه المصلحة ومدى حيويتها وإلى أي مدى تمثل أولوية في لحظة معينة·
فهناك مصلحة مشتركة دفعت إلى دعم العلاقات بين دمشق وأنقرة وبلوغها هذا المستوى الرفيع، إلى حد أن يذهب رئيس سوريا إلى أنقرة للمرة الأولى في التاريخ وأن يلقى كل هذا القدر من الترحاب· ولكن هذه المصلحة ليست طارئة أو مستحدثة، ولم تأت من فراغ· فهي موجودة منذ سنوات طويلة، وبالتحديد منذ أن أدت مغامرة الغزو العراقي للكويت إلى إضعاف نظام صدام حسين وإفقاده السيطرة على أجزاء من إقليم الدولة، وخصوصاً الجزء الشمالي الذي تمتع فيه الأكراد بسلطة ذاتية كانت مستقلة تماماً في الواقع إلى حد أن هذا الجزء لم يكن ينقصه إلا العلم والاعتراف ليصبح دولة مستقلة· كان الواقع يقول إن شمال العراق بات مستقلاً من الناحية الفعلية ليس فقط على الصعيد المادي ولكن أيضاً على مستوى إحساس سكانه الأكراد الذين كرهوا نظام صدام حسين إلى حد أنهم لم يعودوا مستعدين لقبول دولة مركزية في العراق مرة أخرى· ولذلك فإن تطلع الأكراد إلى أعلى درجة من الاستقلال الذاتي، والذي اتفق بشار الأسد مع المسؤولين الأتراك على رفضه، ليس وليد اليوم· إنه نتاج سياسات النظام السابق الذي خلق ما يمكن اعتباره (حرباً أهلية كامنة) في العراق منذ أكثر من عشرين عاماً من جراء التمييز ضد فئات طائفية وعرقية تمثل غالبية الشعب· زرع هذا النظام بذور الفتن العرقية والطائفية التي تطل برأسها اليوم مهددة وحدة العراق ومنبهة من لمن ينتبهوا من قبل إلى الخطر المحدق·
كانت سوريا من بين الأطراف التي لم تنتبه إلى هذا الخطر برغم أن المؤشرات عليه ازدادت وأصبحت أكثر وضوحا منذ بداية العقد الماضي، أو ربما انتبهت ولكنها لم تهتم عملا بالطريقة السائدة في العالم العربي وهي إرجاء كل شيء إلى آخر لحظة والتغاضي عن المشكلات إلى أن تتفاقم·
انتبهت تركيا إلى هذا الخطر في بدايته ليس بالضرورة لأن أداءها السياسي أفضل ولكن لأن أثره عليها كان فوريا بخلاف سوريا· فقد وفر غياب الدولة المركزية في شمال العراق الذي استقل به فعليا الحزبان الكرديان الرئيسيان (الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي) فرصة لحزب العمال الكردستاني التركي لبناء قواعد ارتكاز فيه لعملياته المسلحة التي يشنها في داخل تركيا· كما أن التفاوت في مستوى تطور (المسألة) الكردية جعل انعكاس (الاستقلال) الكردي في العراق على أكراد تركيا أقوى منه على أكراد سوريا· ولذلك لم تجد دمشق ما يثير قلقها بشكل فوري بخلاف أنقرة التي واجهت تهديداً دفعها إلى التدخل العسكري المباشر· فقد عبرت قواتها الحدود مع العراق بشكل متكرر في حملات لملاحقة الخلايا والمجموعات المسلحة التابعة لحزب العمال الكردستاني·
ومن الطبيعي أن يختلف إدراك دولتين للتهديد الذي تمثله مشكلة معينة تمس كلتيهما نتيجة تفاوت أثرها على كل منهما· ولكن ما لا يعتبر طبيعياً هو أن تعمل إحداهما ضد الأخرى بهدف مفاقمة أثر المشكلة عليها برغم أن هذا قد يؤدي إلى تفاقم المشكلة نفسها وازدياد تهديدها للدولة التي لا تواجه خطراً حالاً· فحتى إذا أخذنا في الاعتبار وجود مبالغات في الاتهامات التي وجهتها أنقرة ضد دمشق بشأن علاقتها بحزب العمال الكردستاني، فالقدر المتيقن هو أن سوريا قدمت مساعدة ما لهذا الحزب الذي شن حرب عصابات داخل تركيا·
ويعني ذلك أنه كان ثمة خطأ في حسابات دمشق لمصالحها أدى إلى تغليب منفعة تكتيكية قد تتحقق لها من جراء إضعاف تركيا على خسارة استراتيجية محققة تترتب على توفير الوقود اللازم لإشعال نار الطموحات القومية الكردية في المنطقة على أساس أن هذه الطموحات تضر مصلحة سوريا إذا تجاوزت الحد المعقول واقترنت بنزعة انفصالية· لم ينظر صانعو السياسة السورية تجاه تركيا إلى مدى أبعد من اللحظة التي كانوا فيها· صحيح أنه لم يكن هناك ما يثير قلقهم حينئذ بشأن وضع الأكراد في سوريا· ولكن كان ممكنا توقع أ