شهد الاقتصاد الأميركي مؤخرا موجة من الصعود والانتعاش النسبيين، كان لها صداها الخافت في عدد من البلدان الأوروبية. غير أن صدى الشكوى الصادرة عنها، عمت القارة الأوروبية والدول الصناعية بأسرها. تتلخص هذه الشكوى في القول بأن حملة الأسهم وأرباب العمل بشكل عام يثرون أنفسهم ويزيدون من دخولهم، بينما العمال والمستأجرون يتواصل تدني مستويات أجورهم ودخولهم، أو تراوح تلك المستويات مكانها تحت أحسن الفروض، فتبقى ثابتة دون أن يطرأ عليها أي تغيير. ردا على هؤلاء، يكرر المدافعون عن التجارة الحرة قولهم، إن الضرورة تقتضي استبدال بعض العمالة المستهلكة، بعمالة أكثر تأهيلا من حيث المهارات والقدرات المهنية. تبعا لذلك فإنه لا بد للبعض أن يغادر وظيفته الحالية، ويذهب ليبحث له عن عمل آخر, يسد به حاجته.
ولكن هناك من يثير حجة نقيضة للحجة الأخيرة هذه. ففي تقرير نشره كل من السناتور السابق تشارلس شومر وكريج روبرترتس، وهو أحد مسؤولي وزارة المالية الأميركية السابقين، نقف على رأي مخالف لما ورد أعلاه. يذكر أن التقرير يحمل عنوان (تصدير العمل ليس تجارة حرة). الفكرة الرئيسية هنا، هي أن رأس المال والتكنولوجيا والأفكار والوظائف، جميعها تتمتع في عصرنا الحالي بدرجة غير مسبوقة من الحركة. فقد أصبح ممكنا اليوم استجلاب معظم العمل المنفق في الصناعات الحديثة من مصادر دولية. وهذا هو بالضبط معنى التجارة الحرة، على الأقل في مستواها النظري، كما رآها جيمس ريكاردو، الاقتصادي البارز في القرن الثامن عشر. المقصود هنا، تحرير التجارة العالمية من كافة القيود والحواجز السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي وقفت حجر عثرة أمام تدفقها الحر، كما ينبغي، وكما توقع لها جيمس ريكاردو أن تكون. فقد نادى هذا العالم الاقتصادي بضرورة أن تستغل الدول بعض فوائدها النسبية في كل من الصناعة والموارد. وكان من رأيه أن التجارة في مثل هذه الفوائد التكميلية، من شأنها أن تعود بمصلحة مشتركة لكافة الأطراف والدول التي تتبادلها.
وعلى رغم أن فكرة ريكاردو أعلاه، تعد نظرية تبسيطية إلى حد ما، إلا أنها أثبتت جدواها وفاعليتها على الصعيد العملي. يصح هذا حتى وإن كانت النظرية تعود بفائدة فعلية لكافة الأطراف، كما جاءت في تصور ريكاردو. لكن وعلى أية حال، فإن لهذا العالم الاقتصادي نفسه نظرية أخرى تسمى (القانون الحديدي للأجور). وإن كنت ممن لم يسمع بهذه النظرية البتة من قبل، أو لم تسمع بها إلا لماما، فبعض السبب وراء ذلك يعود إلى عدم رغبتك في سماعها أصلا، أو ربما لأن الزمن نفسه أثبت عدم جدواها وعمليتها. والواقع أن الزمن قد تغير كثيرا، حتى أن الحياة لم تعد كما كانت عليه في القرن الثامن عشر الذي عاش فيه العالم الاقتصادي المذكور.
هنا أيضا يبدو القانون الحديدي للأجور، نظرية سهلة وتبسيطية نوعا ما. إلا أنه قانون لا يزال يحتفظ بمنطقيته. يقول القانون إن الأجور بشكل عام تميل للثبات، إما في مستوى الحد الأدنى المعيشي، أو نحوه. وبالنسبة لريكاردو، فإن ثبات الأجور في هذا الحد يمثل ضرورة لا غنى عنها. ذلك أنه لا يمكن للعمل أن يستغني عن العاملين، وفي الوقت ذاته فلا بد للعامل من أن يأكل ويعيش حتى يبقى قادرا على الإنتاج والعمل. ومن هنا تأتي أهمية تحديد الحد الأدنى للأجور. وفي نظر ريكاردو أنه ليس ثمة أمل للعامل مطلقا في تحسين أجره، طالما أنه بقي قابلا للاستبدال بغيره، وطالما ظل العمل متوفرا في السوق دائما- في المستوى النظري- على الأقل. وفي هذه المقولة، إنما يردد ريكاردو صدى معاصره توماس مالتوس الذي أكد المعنى ذاته ولكن بعبارته الشهيرة الخاصة: (لا سبيل للإنسانية أن تهرب من سجن مأساويتها مطلقا، طالما ظلت أعداد البشر تنمو وتتصاعد بمتوالية هندسية، بينما لا تنمو البضائع والسلع إلا بمتوالية عددية).
وعلى رغم أن الاستنتاجات التي توصل إليها مالتوس لم تكن صحيحة من الناحية العلمية، إلا أنها كانت ذات تأثير لا يمكن الاستهانة به. ومصير استنتاجات ريكاردو بشأن الحد الأدنى للأجور، كان هو ذاته مصير ونصيب معاصره مالتوس، من ناحية عدم العلمية وقوة التأثير. فالشاهد أن الناس تعيش، وتعمل الاقتصادات، في ظل ظروف ومجتمعات محدودة الحجم والمدى، وليست لا نهائية كما تراءت لريكاردو. وأثبت تاريخ العمل والتجربة الإنسانية أن هناك حدودا دائما وفي كل الأزمنة والعصور، لتوفر العمالة الماهرة والبارعة حقا. كما ثبت أيضا أن لا الصناعة ولا العمل، يتحركان بذلك المستوى المطلق الذي رآه البعض. أضف لذلك أن تجربة العمل في القرنين التاسع عشر والعشرين، أثبتت مدى قدرته على الحركة والدفاع عن نفسه، عكس ما تصوره ريكاردو وغيره من الاقتصاديين الكلاسيكيين.
وعليه فما من سبيل لنظرية ريكاردو عن الأجور أن تعمل بكامل طاقتها كما تراءت لريكاردو، إلا في حالة محدودية العمالة وعدم قدرته على الحركة والانتقال من مكان عمل للآخر، أو من مهنة أو صناعة للأخرى. ومن سوء الطالع أن ذلك اليوم قد جاء بالفعل، بفضل العولم