منذ الطفولة يتعلم الأميركيون أهمية التوافق والإجماع، وأهمية (اللعب حسب القواعد الموضوعة ) والمبادرة الفردية، لأن هذه السمات هي التي تشكل أساس منظومتنا السياسية والاقتصادية. في الوقت نفسه فإننا نجد أن الأطفال العراقيين لا يتعلمون هذه الصفات الأساسية، بل على العكس يتعلمون شيئا آخر تماما. فلكي يستطيعوا البقاء والعيش تحت وطأة نظام قمعي مريض، اضطر العراقيون إلى تطوير مجموعة من السلوكيات والمواقف والقيم والمدركات، التي لا يصلح معظمها للحياة في ظل حكومات مفتوحة، ولا تحقيق النجاح في الاقتصاد المعولم .
وعلى رغم أن الولايات المتحدة وحلفاءها يحاولون جاهدين مساعدة العراق على بناء الهياكل الديمقراطية، فإن الخصائص والسمات اللازمة لاستمرار حكومة مفتوحة، وتحقيق نجاح اقتصادي، لن تترسخ في الشخصية العراقية قبل مرور عدة سنوات. يعني هذا أن أي حكومة تظهر، أو أي دستور يعتمد في العراق خلال العام القادم سوف يكون مشوبا بأخطاء كبيرة. وحتى الأشخاص الموهوبون والنشيطون لا يستطيعون البروز من بين ركام الاستبداد والشمولية بين ليلة وضحاها. ولضمان النجاح في العراق، يتعين على الولايات المتحدة أن تعلم أن الأمر سوف يحتاج إلى عدة أجيال، وإلى عقود من الجهد المتصل.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف تستطيع الولايات المتحدة أن تقوم بذلك؟
أولا، يجب أن يقوم المستشارون الأميركيون بمساعدة العراقيين، من خلال تصميم تقنيات فعالة لتحقيق التغيير السياسي. فإجراء تغييرات في قوانين البلاد ودستورها يجب أن يتبلور من خلال عملية صلبة تتطلب جهدا متصلا وإجماعا عريضا، مع مراعاة ألا تكون صلبة أكثر من اللازم بحيث تؤدي إلى تكلس النظام. وقد تمكن الآباء المؤسسون الأميركيون من تحقيق هذه المعادلة بدرجة من الصواب تكاد تكون كاملة، وذلك من خلال خلق نظام متشابك من القيود والمحددات والتوازنات. هذا تحديدا هو ما يتوجب على الآباء المؤسسين العراقيين القيام به، حتى وإن تم ذلك بطرائق مختلفة. إن المؤسسين العراقيين الموجودين حاليا، يجب أن يتعرفوا على الخصائص والصفات الموجودة في ثقافتهم، وفي مجتمعهم، و التي يتعين عليهم التخلص منها في نهاية المطاف باعتبارها تشكل عوائق للتطور. من ذلك على سبيل المثال البنية العشائرية والقبائلية الموجودة في المجتمع العراقي. فعلى رغم أن النظام السياسي يجب أن يكون انعكاسا لحقائق الواقع، إلا أنه يجب أن يكون معلوما أنه لا توجد هناك دولة حديثة ومتطورة، يمكن أن تقوم على مثل هذه البنية العشائرية والقبائلية. لذا يجب على الدستور العراقي أن ينص بشكل واضح وجلي أن هدفه النهائي يتمثل في تذليل هذا العائق الموجود في النظام السياسي- بشكل تدريجي على الأقل.
الأكثر من ذلك أن الأميركيين يجب أن يساعدوا العراقيين على تكوين كوادر من القيادات الملتزمة بالديمقراطية، وعلى تأسيس اقتصاد يقوم على نظام السوق الحر، ومزود بالمهارات القادرة على إدارته. هذا بالطبع طموح بعيد الأمد ، ولكن يجب أن يكون مفهوما مع ذلك، أن وضع كتاب تعليمي مؤقت هنا أو هناك لن يكون كافيا في هذا المجال. لبلورة هذا الهدف وتحقيقه على أرض الواقع، يجب على الولايات المتحدة أن تقوم بتوفير عشرات الآلاف من المنح الدراسية والتدريبية للشباب العراقيين في أميركا، وتشجيع غيرها من الدول الغربية المتقدمة على القيام بالشيء نفسه.و يجب أن تشمل تلك المنح منحا لتعلم اللغات أولا، وأخرى لإلحا ق الطلاب العراقيين بالمؤسسات الحكومية والمنظمات السياسية، والمدارس ومراكز البحوث والدراسات الأميركية المختلفة .
إن مثل هذا الاستثمار في القيادات الديمقراطية المستقبلية سوف يكون استثمارا في محله. علاوة على ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تظل ثابتة في تأييدها للعراقيين الديمقراطيين ،خصوصا أولئك الذين يبدون ميولا معارضة لأميركا. بالطبع نحن لا نستطيع أن نتوقع أن القائد العراقي المستقبلي سوف يكون أداة طيعة في يد أميركا، ولكنه يجب على الأقل أن يكون على درجة من الديمقراطية تستأهل منا أن نقوم بتأييده. بهذه الطريقة، يمكن للعراق الذي لا شك أنه سيكون ديمقراطية هشة وغير مكتملة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أن يتحول إلى ديمقراطية أفضل وأرسخ في العقد الثاني أو الثالث منه.
ستيفن ميتز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رئيس دائرة الاستراتيجية الإقليمية والتخطيط في معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية الحرب البرية الأميركية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة (لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست)