واجه النظام العربي منذ نشأته الرسمية في 1945 أزمات طاحنــة أظهر قدرة عالية على مواجهتها أو على الأقل احتوائها. واجه هزيمة 1948 في أولى الحروب العربية-الإسرائيلية ورد عليها بمعاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي في 1950 التي مثلت بحق نقلة نوعية في الأساس القانوني لمنظومة العمل العربي المشترك بقدر ما أوجدت نظاماً للأمن القومي العربي قادراً على اتخاذ قرارات ملزمة للكافة بأغلبية الثلثين على عكس ميثاق جامعة الدول العربية، وبقدر ما دعمت هذا النظام بفكرة التعاون الاقتصادي سابقةً بذلك التجربة الأوروبية بسبع سنوات على الأقل. صحيح أن هذا كله لم يترجم على أرض الواقع لكن دلالته الرمزية تبقى واضحة: أن النظام الرسمي قد رد على كبوته الهائلة في 1948 بمحاولة جادة للإصلاح.
واجه النظام كذلك أزمة الهزيمة المذلة في 1967 بصيغة ثبتت فاعليتها لإزالة آثار العدوان تمخضت عنها قمة الخرطوم في أغسطس 1967 على نحو أثبت أن الأمن القومي العربي ليس وهماً: أزاحت الدول العربية الرئيسية وفي مقدمتها مصر والسعودية تناقضاتها إلى الخلف باعتبارها تناقضات ثانوية إذا قورنت بالصراع مع إسرائيل، وقدمت ثلاث دول محافظة هي السعودية والكويت وليبيا دعماً مالياً لدول المواجهة مع إسرائيل مكنّها من مواجهة الخسائر الاقتصادية للحرب والتقدم المطرد نحو إعادة البناء العسكري وصولاً إلى إنجاز أكتوبر 1973·
ثم واجه تداعيات الانقسام المصري-العربي حول السياسة المصرية الجديدة إزاء التسوية مع إسرائيل منذ رحلة السادات إلى القدس في 1977· حاول النظام العربي الرسمي حينذاك إبعاد مصر عن منظومة العمل العربي المشترك وتبنى نهجاً بديلاً قائماً على استمرار المواجهة مع إسرائيل، غير أن تداعيات الحرب العراقية-الإيرانية دفعت النظام العربي لاحقاً إلى احتواء الأزمة والسماح أولاً بإعادة العلاقات المصرية-العربية على الصعيد الثنائي وفقاً لمقررات قمة عمّان 1987 وثانياً بعودة مصر إلى الجامعة وعودة مقر الجامعة إلى مصر بموجب قرارات قمة الرباط 1989·
وحتى بالنسبة لأزمة غزو العراق للكويت في أغسطس 1990 التي انقسم النظام العربي حولها كما لم ينقسم من قبل فإنه بدأ اتخاذ خطى وئيدة لكنها غير ثابتة باتجاه إنجاز مصالحة عربية-عربية. صحيح أن المسألة تعثرت طويلاً فلم تعقد قمة عربية عقب قمة أغسطس 1990 إلا بعد ست سنوات كاملة بسبب صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى الحكم، لكنه كان تطوراً إيجابياً أمكن بعده أن يحضر العراق قمة القاهرة 2000 دون أن تناقش (الحالة بين العراق والكويت) كما كانت تسمى لتعود وتناقش في قمة عمّان 2001، وكاد النقاش يصل إلى نتيجة لولا تشدد ممثلي النظام العراقي السابق الذين أعادوا حساباتهم لاحقاً في قمة بيروت2002 فقبلوا تفاهماً كان من الممكن أن يؤدي إلى مصالحة عراقية-كويتية لولا تزامن هذا التفاهم مع تصاعد التهديد الأميركي للعراق.
غير أن ما سبق كله شيء وما حدث للنظام العربي في 2003 شيء آخر، ففي تلك السنة المنصرمة وقع أول احتلال عسكري لبلد عربي كبير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا يقل أهمية عن ذلك أن الدولة القائمة بالاحتلال هي القوة العظمى الأولى في العالم، وقد ضربت واقعة الاحتلال النظام العربي في الصميم، فالحديث عن نظام إقليمي فرعي كالنظام العربي يفترض أصلاً قدراً من الاستقلالية صغر أم كبر، غير أن وجود قوة عظمى تسيطر على وحدة من وحدات النظام ناهيك عن أن تكون بوزن العراق وتقبع في القلب منه يجعلها قادرة على التأثير المباشر في تفاعلات النظام وهو المعنى الذي ذهب إليه كولن باول وزير الخارجية الأميركي حين صرح في أعقاب احتلال العراق بما معناه أن وضعاً استراتيجياً جديداً قد نشأ في المنطقة وأن الدول المعنية كافة عليها أن تعيد حساباتها وفقاً لهذا الوضع.
وفي الأغلب فإن هذا هو ما حدث بالفعل وأن الدول العربية أخذت في تكييف سياساتها مع الواقع الجديد للاحتلال وليس مع مقتضيات مواجهته. وانعكس هذا على سبيل المثال في تدني التفاعلات العربية-العربية على الصعيد الجماعي إذا قورنت بغيرها، فلم تنعقد قمة عربية طارئة بعد غزو العراق، لكن قمة عربية-أميركية قد انعقدت، ولم ينعقد مؤتمر اقتصادي عربي ولكن منتدى دافوس انعقد على أرض عمّان بحضور الحاكم الأميركي للعراق المحتل، وعقد مؤتمر لوزراء خارجية دول جوار العراق التي تضم تركيا وإيران بطبيعة الحال ولم يعقد مؤتمر عربي مماثل. وأخفق وزراء خارجية دول اتحاد المغرب العربي في تحديد موعد لانعقاد قمة رؤسائهم مع أن هؤلاء كانوا قد قبلوا الاجتماع مع نظرائهم الأوروبيين وفقاً لصيغة (5+5)·
مع ذلك فإن قوى الإصلاح في النظام العربي بدت حية، فتقدم عدد من الدول بمبادرات لإصلاح النظام العربي متمثلاً في جامعة الدول العربية، لكن الرغبة في الإصلاح شيء والقدرة على مواجهة متطلباته السياسية والاقتصادية والإدارية شيء آخر، وهناك للأسف أكثر من سبب يدعو للتشاؤم بشأن هذه (القدرة). من هذه الأسباب مثلاً أ