هذه المرة لا داعي للكذب والادعاء واصطناع البراءة أو التصنع بعمل مجيّر لمصلحة الأمة، فكل بلد عربي دخل أو يهمُّ بالدخول إلى اتصالات سرية مع إسرائيل لإقامة علاقات معها، عميقة أو سطحية، ديبلوماسية أو مجرد تبادل تمثيل تجاري، لا يستطيع القول إنه يفعل ذلك لمصلحة الشعب الفلسطيني مثل هذه الذريعة بات مجرباً، والتجربة برهنت على أن هذا التطبيع لم يفد حيث قيل إنه سيفيد والأكيد أنه أضرّ من دون الاعتراف بأضراره الأفضل أن يقال إن هذه العاصمة أو تلك تقيم علاقة مع العدو لمصلحتها الخاصة أولاً وأخيراً هكذا، بكل "شفافية" وصراحة
بين دول الجامعة العربية، أصبحت تلك التي لا تزال ملتزمة القضية الفلسطينية معدودة ومحدودة وبين هذه الملتزمة يمكن تسمية واحدة أو اثنتين وبالكاد ثلاث يمكن وصف التزامها بأنه حقيقي وأصيل ولأنه حقيقي وأصيل، فإنه التزام مكلف يجعل صاحبه مستهدفاً بدوره، لذا لا يستطيع كل ملتزم أن يصمد أمام الضغوط أو يناور معها سعياً إلى مواصلة الالتزام والتخلص من الضغوط في آن ولأنه حقيقي وأصيل، فإنه لا يستخدم هذه القضية لمعالجة مآزقه أو المقايضة بها أو المساومة عليها أو أخيراً، التدخل فيها أملاً في امتلاك أوراق سياسية للاستمرار في المناورة إلى ما لا نهاية.
عندما انطلقت "عملية السلام" في مؤتمر مدريد، سارعت دول عديدة إلى التطبيع مع إسرائيل، وصولاً إلى نيل الرضا الأميركي والواقع أن كل الدول التي أقدمت، كانت أصلاً مرضياً عنها يومئذ قالوا إن واشنطن رغّبتهم في ذلك، ووعدتهم بالكثير مما يريدون سماعه، وقالت إن خطوتهم تقلص الشكوك الإسرائيلية وتقوي جناح السلام في إسرائيل، كما أنها يمكن أن تفيد الفلسطينيين لكن هؤلاء المطبّعين، إضافة إلى شبه المطبّعين أو المطبّعين خفية، لم يملأوا عين أميركا ولا عين إسرائيل فظلتا تلتفتان إلى مناوئي التطبيع، فهؤلاء هم المشكلة حتى لو لم يعرقلوا أي تقدم في "عملية السلام" لو قدّر له أن يحصل عدا أن الخطوة كانت مكلفة جداً داخلياً لكل دولة مطبعة، فإن مردودها خصوصاً أميركياً لم يكن ليستحق عناء الرحلة
لم يتمكن المطبعون من إسماع صوتهم عندما بدأت "عملية السلام" تفسد وقبل أن تترنح وتنهار بفعل الخديعة الإسرائيلية وتواطؤ الولايات المتحدة معها ومع الوقت لم يسمع لهم أي صوت أسقطت إسرائيل كل المفاهيم التي قامت عليها عملية السلام، أسقطت "الوسيط" الأميركي، حوّلت المفاوضات إلى مبارزة بين موازين القوة، ولو كان (السلام) ثمرة القوة والسيطرة لكان أفلح الاحتلال الذي استمر عقوداً لم يعد سراً أن (العملية) قامت على تفاهمات أميركية­إسرائيلية، مفادها أن (السلام) لا يمكن أن يعني في أي يوم إنصاف الفلسطينيين، وإنما يعني استدراج العالم العربي إلى قبول تصفية (القضية) فلسطينياً وعربياً وكلما صعبت التصفية تصاعدت مترتباتها العربية، إلى أن بلغت الآن مرحلة حاسمة إسرائيل تشن حرباً مبرمجة، لا يعنيها وقف إطلاق نار ولا هدنة بل لا تعنيها وساطة أكبر دولة طبعت العلاقة معها منذ ربع قرن، ولا تعنيها وساطات أوروبا أما الولايات المتحدة فلا تجرب حتى الآن أن تقنعها بشيء من التعقل والمسؤولية، ناهيك عن أن تردعها عن التخريب المتعمد لأي سلام مستقبلي ويتمثل في ما يسمى بـ(جدار الفصل).
قبل سقوط العراق تحت الاحتلال كانت تحسب كل خطوة ضده بانعكاسها على الوضع الفلسطيني، كان العكس صحيحاً إذ كان التوتر في فلسطين يحسب كأنه هدنة على الساحة العراقيةلم يعد هذا الحساب قائماً منذ 11 سبتمبر الشهير، ولم يعد وارداً منذ اندلاع الحرب على العراق بعدها أصبح العالم العربي في حال يرثى لها، في مقابل قوة عظمى لا تتقن لملمة الأشلاء بل لا ترغب في ذلك حتى لو كانت تعتزم إعادة رسم خريطة المنطقة ومع أن الولايات المتحدة اختارت التعايش مع ساحة عراقية يقتل فيها جنود كل يوم، إلا أن إسرائيل ارتأت أن تتعايش مع مأزقها بتقتيل الفلسطينيين وتدمير بيوتهم يومياً، مصممة على مواصلة القتل والتدمير إلى أن تحصل (المعجزة) التي تنتظرها منذ زمن
فجأة، بلا مبررات، انفتح باب شبه اكتتاب جديد للتطبيع مع أسوأ حكومة عرفتها إسرائيل حكومة تجهر أمام الرأي العام بأن السلام ليس في جدول أعمالها، وأنها مصممة على خططها لإبادة شيء اسمه قضية شعب فلسطين الأغرب أن هناك أصواتاً في إسرائيل تحذر من أن العرب الراغبين في التطبيع إنما يفعلون ذلك ارضاءً للولايات المتحدة، وبالتالي فلا داعي للتقارب معهم لأنهم لم يغيروا اقتناعاتهم ما العمل إذاً؟ قد يعني ذلك أن المطبعين الجدد مرشحون لـ(اختبار الكذب) لاستكناه دواخلهم فليذهبوا إلى التطبيع، لكن فليعلموا أن الهرولة هذه المرة قد لا تفيد، لأن إسرائيل فرضت شروطاً صعبة على الراغبين وقد ترفض بعضهم.