يرد في الأدبيات السياسية مصطلح (الاستعصاء) في البلاد العربية، بمعنى أن معظم بلدان العالم سواء في أميركا اللاتينية أو الشرق الأقصى أو الجمهوريات السوفييتية قد قبلت بالديمقراطية أسلوب حكم وحياة بما تتضمنه الديمقراطية من حريات فردية ومدنية وفكرية وتعددية سياسية، إلا بلدان الشرق الأوسط التي ما زالت مستعصية على الديمقراطية غير متقبّلة لها كنظام حكم وأسلوب حياة·
وأعتقد أن المصطح المناسب هو (الاستقواء) وليس الاستعصاء، كما هو الحال مع الكويت والبلدان العربية التي لديها دساتير وبرلمانات· وأقصد بالاستقواء هو أن هذه الدول على رغم طويل التجربة البرلمانية نسبياً لا تزال عاجزة ومقصّرة في مجال الحريات المدنية والفكرية، كما أنها تتجاهل المبادئ الواردة في الدستور وتهملها حتى لا تُقيد الممارسات الحكومية في إطار القانون، وهذا ما يدفعنا إلى القول إن البلدان العربية أنظمة حكومية وبرلمانات وشعوبا تسعى جهدها للاستقواء والتعدي على الديمقراطية بعد أن تبين لها أن استحقاقات الديمقراطية ثقيلة·
لنأخذ الشعوب العربية مثلاً، إنها تترك الدستور وتلجأ إلى دار الافتاء بحثاً عن حل لمشكلة قانونية أو دستورية، في حين أن وجود الدستور يُفترض أنه يغني عن الرجوع إلى أي مصدر آخر في القضايا والأزمات الدستورية· كذلك الأمر مع الحكومات والنواب البرلمانيين· والسبب في ذلك أن الفتوى الدينية لا تفرض قيوداً قانونية خلافاً للدستور الذي يفرض نصوصاً وقيوداً لا يمكن للشعب أو النظام السياسي أن يفلت منها وتوجب عليه تبعات قانونية لابد من تنفيذها· كذلك الأمر مع مبدأ الفصل بين السلطات الذي يقرّه الدستور، حيث نجد الحكومة وأحياناً البرلمان يتدخل كل منهما في أعمال الآخر· ومع إهمال هذا المبدأ عملياً تتداخل السلطات، وغالباً ما تكون الحكومة هي الجانب المنتصر، أما النواب البرلمانيون فيعيقون العمل الحكومي الذي يمارسه الوزراء والموظفون الحكوميون بشكل عام، الأمر الذي يسبب إرباكاً للسلطة التنفيذية واخلال الأمور إلى الدرجة التي تؤثر على سير العمل وتنشر أو تشجع انتشار الفساد الإداري·
الانتهاك اليومي للقانون أصبح عرفاً مقبولاً في هذه الدول سواء على مستوى المؤسسات الرسمية أو الأفراد· فمفهوم دولة القانون لم يُعد قائماً، حيث يمتد الانتهاك من عدم التقيد بقانون المرور إلى التعدي على الأملاك العامة إلى الواسطة النافذة لتجاوز القانون في المعاملات الرسمية، إلى تجاهل السلطة الرسمية للكثير من القوانين المنظمة للحياة والتي يتم تشريعها من خلال المؤسسة التشريعية· كذلك الأمر مع مبادئ العدالة القانونية أو الاجتماعية والمساواة التي نتشدق بها كثيراً حكومة ومواطنين، لكن كثيراً من الحقوق للأسف، لا يتم تحقيقها سواء ما يتصل بالسياسة كالحقوق السياسية للمرأة، أو الحقوق المدنية، أو حق الطفل أو المقيم الذي تتم المتاجرة بأمواله على مسمع ومرأى السلطة·
هذا الاستقواء لا تفسير له سوى أننا كأفراد، وبغض النظر عن مراكزنا التنفيذية، -فالموظف العادي مثل الوزير- لا نؤمن في دواخلنا الذاتية بدولة القانون· نحن أفراداً وحكومات لا نزال عاجزين عن تحديد هويتنا الحضارية، وماذا نريد بالضبط؟ دولة القانون أم دولة الفوضى؟ ونحن نقوم بذلك عمداً حتى لا يتم إلزامنا باختيارنا الذي نقرره، لأن استحقاقات الديمقراطية ثقيلة جداً سواء على المستوى الفردي الخاص أو العام· لذلك نعيش كمواطنين في حالة من الازدواجية المريعة، وبذلك فلا نحصل على دولة القانون على رغم كثرة القوانين التي نقوم بتشريعها، ولا نحن قادرون على الاستغناء عن دولة القانون، لأننا نعلم علم اليقين أن دولة الفوضى -إن جاز التعبير- ليست مطلوبة لذاتها، لأننا سنعيش حينذاك في غابة، وليس في مجتمع مدني.