للمرة الثانية تحدث في قمة دول جنوب شرقي آسيا مصافحة بالأيدي بين الرئيس الباكستاني (برويز مشرّف) ورئيس الوزراء الهندي (أتال بيهاري فاجبايي)·
وقد أتى اللطف والوداعة من جانب واحد فقط، حيث بادر مشرّف، أمام عدسات الكاميرات في القمة التي انعقدت في (كاتماندو) النيبالية عام 2002، إلى مدّ يده ليصافح (فاجبايي) الذي أخذت منه الدهشة كل مأخذ ولم يجد تسلية في تلك البادرة التي أرغمته على مدّ يده بالمثل.
كانت العلاقات الباكستانية - الهندية في الحضيض آنذاك. ولم يرَ الزعماء الهنود في مشرّف، الذي استولى على السلطة في عام 1999 بانقلاب عسكري أطاح بحكومة نواز شريف، إلاّ زعيماً قوياً آخر لا يختلف عن غيره في سلسلة الزعماء الباكستانيين الأقوياء. ويضاف إلى ذلك أن مشرّف كان العقل المدبر للتحرك العسكري الباكستاني الذي توغّل في قطاع (كارجيل) الكشميري، والذي تولّدت عنه معارك ضارية بين الهند وباكستان.
وفي عام 2001، وقع هجوم دموي على مبنى البرلمان الهندي نفّذته عناصر من الإسلاميين الكشميريين الراديكاليين. وقد ألقت الهند المسؤولية عن الهجوم على الحكومة الباكستانية، فقامت بحشد 500 ألف من جنودها على طول الحدود مع باكستان. وتعهدت باكستان آنذاك بحماية نفسها- وهي عبارة لا يجد أحد من الناس صعوبة في فك مغاليقها وحل شيفرتها، باعتبار أن الهند وباكستان دولتان تحولتا في جنوب آسيا إلى دولتين نوويتين في عام 1998· وأمام هذه الخلفية، ليس مفاجئاً أنّ تسفر المصافحة بين الزعيمين في العام الماضي عن لا شيء، ولم تحقق أية نتيجة.
ففي الشهر الماضي، نجا الجنرال (مشرّف) من محاولتي اغتيال ساد اعتقاد واسع بأنهما من تدبير وتنفيذ المسلحين الاسلاميين. ومن المعلوم أن الجماعات الإسلامية الباكستانية ثار غضبها الشديد حيال قرار مشرّف بشأن مساعدة الولايات المتحدة في حربها على نظام (طالبان) ومنظمة (القاعدة)، حيث اعتبروا أن استعداد مشرّف الواضح، لإعادة النظر في مطالبة باكستان الدائمة بإجراء استفتاء عام في كشمير، يمثل ارتداده المؤكد عن العقيدة والدين.
وقد أدت محاولتا الاغتيال إلى إقناع مشرّف بأن الجماعات الاسلامية الراديكالية-التي اعتاد مشرّف على تسميتها بجماعات (الفدائيين) المقاتلين في سبيل الحرية- باتت تسدد فوهات بنادقها إلى صدره، كما أسفرتا عن إقناعه بأنها تشكل تهديداً أكبر وأخطر شأناً من التهديد الهندي.
ومن جهتها، تعتقد (نيودلهي) بأنها تتعامل مع باكستان من منطلق القوة. فمن المعلوم أن الاقتصاد الهندي يشق سبيله إلى الازدهار والقوة، وأن الولايات المتحدة تشير إلى الهند كشريكة استراتيجية لها.
ويعتقد زعماء الهند أن الموت عندما لامس مشرّف في محاولتي الاغتيال قد أقنعه بإيقاف ما تصفه الهند بـ(الارهاب عبر الحدود). وتشكل هذه الاعتبارات بمجملها الأسباب التي تفسّر حدوث المصافحة الأحدث -التي سبقها تبادل سري وغير رسمي للمعلومات، وتحقق قبلها فتح طرق المواصلات بين الهند وباكستان- كما تفسّر ارتسام الابتسامة على وجه (فاجبايي) واستعداده للمصافحة.
لكن على رغم أن الكثيرين يتوقعون الآن حدوث تغيرات دراماتيكية في منطقة جنوب آسيا، تبقى هناك عقبات هائلة في طريق المصالحة والسلام بين البلدين.
ومن ذلك أن مجال المناورة المتاح أمام مشرّف ضيق لأن الإسلاميين في باكستان يشكلون قوة سياسية ذات نفوذ واسع وكبير. ومن المعلوم أن جماعات الإسلاميين لها ممثلون في البرلمان الوطني الباكستاني، وأنها تسيطر على الإقليم الحدودي الشمالي الغربي من باكستان وأنها شريكة في حكم إقليم (بلوشستان)، وهما إقليمان يشكلان بيئة خصبة لمشاعر العداء المناهض لأميركا.
إن مشرّف يخاطر بكل شيء إذا بدا أنه يستسلم أمام الهند الآن بتشجيع أميركي وحثٍ على اتخاذ هذا المسار. غير أن غيابه سيعني أن براعم الانفراج الناشئ بين البلدين سيكون مصيرها الاقتلاع من جذورها؛ ويضاف إلى ذلك أن جذور الانفراج سطحية ولا تضرب عميقاً في المؤسسات الباكستانية الرئيسية (الجيش ودوائر الاستخبارات)· وعلى رغم الابتهاج السائد الآن، تبقى هناك الشرور المدفونة في التفاصيل والتي سرعان ما تبرز إلى حيز الوجود، إذ أن الهند ستكون مضطرة إلى تقديم شيء ملموس هام إلى مشرّف بخصوص كشمير إذا أرادت له أن يمضي إلى حد أبعد. ولا بد لـ(فاجبايي) من أن يقنع الجمهور الهندي المتشكك بهذه التنازلات، والأهم من ذلك أن يقنع بها الصقور المتشددين داخل حكومته.
لن ينفع المزيد من المصافحات والتبادلات الثقافية والتجارية. بل هناك حاجة إلى صيغة تحقق حلاً وسطاً ومصالحة ما بين مطالبة الهند بكشمير كولاية هندية وإصرار باكستان على أن مسألة كشمير يعود تاريخها إلى أيام تأسيس الهند وأيام خروج باكستان من تحت عباءة الحكم البريطاني عام 1947· وعند تحقق ذلك، سيجد كل طرف منهما أنه وقع رهينة بيد تاريخ بلده وهويته القومية.
إن كشمير جزء من أسباب وجود باكستان، حيث إن منطق باكستان كان يقول إن إقامة دولة مستقلة أمر من شأنه وحده أن ي