اليوم أصبح الغالب الأعم من العالم يدرك أن الحرب على العراق كانت ضربا من الخداع والاحتيال. فالواقع أن الولايات المتحدة وبريطانيا لم تخوضا الحرب لاعتمادهما على معلومات استخباراتية مغلوطة، وإنما استنادا إلى معلومات استخباراتية جرى طبخها وفبركتها وتضخيمها عمدا من قبل (صقور) واشنطن، العاقدين العزم على إسقاط نظام صدام حسين بأي ثمن كان. أما الفرضية التي بنى عليها هؤلاء، فتتلخص في تصورهم أن (تغيير النظام) في العراق، سوف يفتح الطريق أمام عملية تحويل شامل لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها، بما يخدم مصالح كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن النتيجة النهائية لكل ذلك أننا أصبحنا أمام فضيحتين: أولاهما فضيحة استخباراتية. فقد ثبت فشل الولايات المتحدة الاستخباراتي، إذ لم تفدها كل هذه المليارات من الدولارات التي تنفقها سنويا على الاستخبارات، في توفير معلومات دقيقة وصحيحة، حول الموقف الفعلي لبرامج أسلحة الدمار الشامل العراقية. وثانيتهما الفضيحة السياسية. وهنا تم تشويه المعلومات الاستخباراتية وتحريفها، في سبيل خدمة أهداف سياسية مشبوهة ولا يعتد بها.
السؤال المطروح الآن في الساحة السياسية وأمام الرأي العام، هو ما إذا كانت هاتان الفضيحتان، سيكون لهما تأثير مباشر على بقاء الشخصيات المسؤولة عنهما مباشرة، في مناصبها السياسية الحالية أم لا؟ الإشارة هنا للرئيس الأميركي جورج بوش وحليفه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، إضافة إلى عدد كبير من كبار المسؤولين في كلا البلدين. وعلى هؤلاء جميعا تقع مسؤولية شن الحرب، وتكلفتها المالية الباهظة، علاوة على ارتفاع عدد الضحايا يوميا. ففي الولايات المتحدة الأميركية، يدور جدل واسع ومحتدم في الرأي العام حول ما إذا كان الضرر سيلحق بفرصة إعادة انتخاب الرئيس بوش لدورة رئاسية جديدة في انتخابات شهر نوفمبر المقبل من العام الحالي أم لا. وكما هو واضح فإن المرشح الديمقراطي هوارد دين، يحاول جاهدا، استثمار الخدعة التي نسجت في سبيل تبرير الحرب على العراق، لأقصى حد ممكن. يذكر أن دين هو أقوى مرشح ديمقراطي منافس للرئيس بوش في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وأنه ظل متمسكا بمعارضته للحرب منذ مرحلة ما قبل إعلانها، وإلى اليوم. ومع أنه يصعب قول كلمة فاصلة في هذا الاحتمال الآن، إلا أن في تأييد مئات الآلاف من الأميركيين لحملته الانتخابية عبر شبكة الإنترنت، ما يشي بأن جهوده قد صادفت هوى في نفوسهم ومواقفهم الانتخابية. وفيما لو تواصل سقوط المقاتلين الأميركيين بأعداد كبيرة في العراق، خلال الأشهر المقبلة، فإن المصير الانتخابي لبوش، سيواجه مأزقا حقيقيا.
وفي بريطانيا، يواجه توني بلير حملة انتقادات متصاعدة وشبيهة، يوما إثر الآخر. يضاف إلى تلك الحملة، اتهامه بالكذب على البرلمان والرأي العام البريطاني حول الأسباب والذرائع التي دفعته للانضمام إلى حرب حليفه بوش. ففي وقت متأخر من هذا الشهر، يتوقع أن يرفع اللورد هاتون نتائج تحقيقاته حول مصرع خبير الأسلحة البريطاني البارز الدكتور ديفيد كيلي. وفيما نقل عن الدكتور كيلي أنه قال لأحد صحفيي هيئة الإذاعة البريطانية، إن حكومة بلير قد ضخمت المعلومات الاستخباراتية حول ترسانة أسلحة الدمار الشامل العراقية. ولا غرو إذن أن تنتظر الحكومة نتائج التحقيق المذكور بالكثير من القلق ونفاد الصبر. وليس مستبعدا أن تؤكد نتائج التحقيق ما ظل متداولا على نحو واسع في الشارع البريطاني، من أن بلير نفسه، ربما يكون هو من أوعز بإشهار اسم الدكتور كيلي بوصفه مصدر المعلومة التي أذاعتها الـ(بي بي سي). وفي اعتقاد الشارع البريطاني أن بلير قد فعل ذلك كردة فعل منه لغضبه على هيئة الإذاعة البريطانية التي أذاعت النبأ، ولطخت اسم حكومته- من وجهة نظره- كما يعتقد. إن صح ذلك، فسوف يكون اسم بلير مرتبطا بالرواج الواسع الذي لقيته المعلومة، ومن ثم تعريض الدكتور كيلي لحرج بالغ، وإثارة غضبه لدرجة ربما يكون قرر فيها القضاء على حياته، واختيار الموت مخرجا من الحرج.
عودة إلى واشنطن، فإن حملة الانتقادات لا تقتصر على الرئيس بوش وحده، ولا على كبار شركائه ومساعديه مثل نائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد فحسب. إنما تمتد الحملة لتشمل تلك المجموعة الصغيرة من الصقور النافذين في الإدارة الحالية، وهي ما يسمى بمجموعة (المحافظين الجدد). والمعروف عن هذه المجموعة أنها لم تأل جهدا في سبيل الدفع بالولايات المتحدة إلى هذه الحرب، مهما كلف الثمن. وقد آزرها في هذا الجهد عدد من الحلفاء اليمينيين الكثر، المنتشرين في مختلف مؤسسات البحث والدراسات الموالية لهم في العاصمة واشنطن.
أبرز هؤلاء وعلى رأسهم جميعا، بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع، ودوجلاس فيث، مساعد الوزير للسياسات الدفاعية، وإليوت أبرامز، مدير شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي. يضاف إليهم بالطبع سيئ الذكر، ريتشارد بيرل الذي كان يشغل وظيفة رئيس مجلس السياسات الدفاعية في أيام الحشد والإعداد لشن الحرب. يشار إلى