بدأت بالأمس فعاليات المؤتمر السنوي التاسع لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، تحت عنوان :(الخليج: تحديات المستقبل)، وتشارك فيه نخبة من الخبراء العالميين وصناع القرار، يتناولون خلال جلساته موضوعات ومحاور بالغة الأهمية بالنسبة إلى مستقبل منطقة الخليج العربي.
إن أهمية الموضوع المطروح للبحث، والمنهج في توزيع جلساته إجرائياً، والجدية المعرفية في اختيار المتحدثين، كلها أمور جديرة بكل تقدير واحترام. فمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية -الذي هو أكبر مركز من نوعه في الشرق الأوسط- يقف بإنجازاته العلمية الرصينة، ورؤيته المتبصرة الواثقة، على شرفة المستقبل، باذلاً كل ما يلزم من جهد واستثمار علمي، لبناء مقومات مجتمع المعرفة في هذا الجزء العزيز من العالم.
ولعل نظرة إلى عناوين بعض الجلسات تكفي للحكم على جدية المسعى، فمن مكانة دول مجلس التعاون على خريطة الاقتصاد العالمي، ومستقبل وآفاق التعاون بين هذه الدول داخلياً، وما هو ممكن ومتاح لها من أدوار إقليمياً ودولياً،ومستقبل الأنظمة السياسية فيها، إلى طبيعة إمكانات التحولات الحاصلة في العراق الآن في مرحلة ما بعد الحرب وفي ضوء مشروعات مرحلة إعادة الإعمار وتأثير ذلك على المنطقة الخليجية عامة. ومن آخر التحولات في التوجهات الأمنية والتسلحية الإيرانية ورؤيتها لمستقبل العلاقات الإقليمية، ووجهة نظر أكثر من طرف غربي ودولي حول تلك الرؤى والتوجهات الإيرانية، إلى قضية التأثير الذي تمارسه الشركات المتعددة الجنسيات على صعيد عالمي وما تشكله بحكم طبيعة نشاطها من تحوير في المفاهيم الكلاسيكية المعتادة المتعلقة بسيادة الدول. وليس ذلك فحسب فبقية موضوعات جلسات المؤتمر تتناول قضايا تتعلق في مجملها بمستقبل المنطقة وبتحديات ومعطيات النظام العالمي المحيط بها حيث إن استقراء ضروراته وملامحه شرط لتكوين تصور علمي واضح عما هو متاح أمامها من هامش حركة في الممكن والمرغوب لضمان مستقبل أجيالها القادمة.
ولكل ذلك جاء عنوان المؤتمر: (الخليج: تحديات المستقبل) استشرافا لأفق مستقبلي تبدو من الآن كل المؤشرات الدالة على كثرة ما يحمله من تحديات للمنطقة. واختيار هذا الموضوع يعكس بجلاء مدى الاهتمام الذي يوليه المسؤولون وصناع القرار في الدولة للبحث العلمي، وخلق مجتمع المعرفة من جهة، ومدى الحاجة الفعلية القائمة إلى دراسة واستشراف مستقبل المنطقة من جهة أخرى.
لم يعد مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية مجرد بارقة أمل تضيء في دياجير هذا الليل المعرفي العربي العام، الذي كشف (تقرير التنمية الإنسانية العربية 2003) بعض مظاهره وبالأرقام الإحصائية. بل إن المركز أصبح منارة علمية يشع عطاؤها على منطقتنا والوطن العربي والعالم، وتستطيع أن تسهم في صناعة مجتمع المعرفة المستقبلي المنشود.
إن الاستثمار الحقيقي في أيامنا هذه هو العمل على تشكيل صورة المستقبل والسعي إلى التأثير فيه، وغني عن البيان أنه لا طريق أفضل ولا أضمن لكسب رهان المستقبل من بناء أسس وترسيخ ممارسات مجتمع المعرفة، لأن المعرفة في حد ذاتها قوة، ومركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية برصيده الكبير من العمل الصادق الدؤوب صرح علمي يستحق كل تقدير وجدير بأن يكسب رهان المستقبل.