الفكر المنتج هو الذي يحتاجه عالمنا العربي، الفكر البعيد عن النظرية والتنظير، الفكر الذي يسعى إلى تنمية الإنسان والمجتمع، ويقول المثل الصيني في هذا الصدد >إذا كانت فلسفتك لا تزرع القمح فلا أريد أن أسمع عنها<، ونحن في بدايات هذا القرن علينا أن نعي مسيرة العديد من الشعوب والحضارات حين وضعت نصب عينها أطراً عملية تدير أمورها وأمور شعوبها وتبتعد عن الشعارات وأصحاب الشعارات، وتبنت تقاليد براغماتية توفر الخبز والحرية لأنهما عمودان أساسيان لا يستوي بناء نهضة دونهما·
وسيلاحظ المتتبع للسياسة العربية أن الاقتناع بهذا التوجه البراغماتي للسياسة متقطع وغير متصل على رغم وجود العديد من المؤشرات الإيجابية، ولعل التوجه الليبي الأخير يعد من الأمثلة الإيجابية ويحسب لطرابلس الغرب من حيث إنه يضع تنمية الوطن وتطور الشعب كأولوية تستبدل سنوات من التجربة الثورية والتي غلّبت أهدافا نظرية فوق مكاسب عملية، ومن العراق قد نرى الاختراق الآخر نحو البراغماتية على رغم أننا نجد أن العديدين في عالمنا العربي منشغلون برؤية الجانب الخالي من الكوب، متجاهلين حقيقة أننا أمام تجربة إن هي تكللت بالنجاح فستأتي بفلسفة تزرع القمح وتحترم الإنسان وتقيم العلاقات الطبيعية مع الجار·
ولعلنا، ونحن هنا في دولة الإمارات العربية المتحدة ننطلق من تجربة حية وناجحة حين نردد أن الإنسان يجب أن يكون محور التنمية، وأن سعادته وصحته وسكنه وتعليمه وحريته يجب أن تكون الشغل الشاغل للعملية السياسية، فمثل هذا التوجه العملي والواقعي يجب أن يسود عالمنا العربي ويستبدل المناخ السياسي السائد والذي كان، وما يزال، قائماً على تمجيد بطولات وانجازات وهمية والتهيئة لخلافة سياسية عائلية تخالف الجذور الجمهورية للعديد من النظم العربية وميراثها الثوري أو لعله الانقلابي·
وفي رسم هذه الصورة السلبية لعالمنا العربي لا أخترع جديداً ولكني أعايش واقعا نعرفه من خلال زياراتنا وزملائنا وقراءاتنا، بل ومن خلال تقارير التنمية العربية والتي تؤكد على قلة الانجاز وعلى عمق الفجوة وعلى فشل التجارب، وهو فشل يبدو مضاعفاً حين نعرّي الشعارات ونكتشف المرة تلو الأخرى أن هذا الجانب ما هو إلا للتغطية على قيادة شاخت وتحاول التأسيس لأبنائها وحماية مكتسبات أسرتها وعشيرتها·
والدعوة هنا في هذا العمود المتواضع ليست دعوة لنبذ الأيديولوجيا، فالأيديولوجيا مهمة وتوفر الإطار النظري والذي لابد منه لرسم التوجه الضروري لمسيرة الشعوب، ولكنها دعوة لمحاسبة الأيديولوجيا وتوضيح ما قدمته من مكتسبات ملموسة من خلال تسيير أمور الدولة وإدارة شؤون المجتمع· وفي الختام المطلوب هو العودة للبساطة، إن صح التعبير، وتبني فكر يوفر المأكل والملبس والتعليم والصحة والحرية للمواطنين، فكر وممارسة تستطيع أن تخلق نظاماً اقصادياً منتجاً يستطيع أن ينافس في عصر العولمة، فكر يصنع دولة مؤسسات ولا ينهب خزينتها العامة لصالح أصحاب الشعارات وأبنائهم، ليكن هذا مقياسنا وسيكون المستقبل لنا ولعالمنا.