شهدنا في الأسابيع القليلة الماضية تغيرات ملحوظة ومهمة في بعض أصعب وأخطر تهديدات الانتشار النووي العالمي. وبدلاً من التوجه نحو النزاعات العسكرية، يبدو أن الولايات المتحدة تتحرك نحو الحلول التفاوضية التي من الممكن أن تضع حداً لبرامج الأسلحة النووية الإيرانية والليبية وربما أيضاً الكورية الشمالية.
وليس من الواضح أن هذه الاختراقات، التي ما تزال مؤقتة وغير نهائية على رغم أنها تبشّر بتقدم استثنائي، قد أتت كنتيجة لنجاح أو إخفاق الأميركيين في العراق. فهل استطعنا عقد صفقات مع ليبيا وإيران بسبب خوف النظامين من أن دورهما قد أتى على لائحة تغيير الأنظمة، أم لأن الولايات المتحدة مقيّدة الحركة في العراق إلى درجة أن إدارة (بوش) تجد ضرورة لإيجاد حلول دبلوماسية؟
لقد تعاملت التغطية الإخبارية والتحليلات مع هذه التطورات وكأنها أحداث منفصلة لا رابط بينها. وعلى رغم ذلك فإن النموذج الذي تتضح معالمه عند رسم الخطوط بين النقاط يتمتع بأهمية تعادل أهمية الأحداث نفسها، وهو لا يشير فقط إلى إحراز تقدم مهم نحو إيقاف انتشار الأسلحة النووية، بل أيضاً إلى حدوث تحول غير معترف به حتى الآن دفع واشنطن إلى التفاوض مع الأنظمة التي تعهد الأميركيون سابقاً بالإطاحة بها.
كوريا الشمالية: في الأسبوع الماضي، وفي تطور وصفه (كولن باول) بأنه (إيجابي)، عرضت كوريا الشمالية تجميد برنامجها النووي في مقابل تنازلات أميركية سياسية واقتصادية. وفي يوم الجمعة الفائت، سمحت (بيونغ يانغ) لوفد من الخبراء والمسؤولين السابقين الأميركيين بالقيام بجولة على منشآتها النووية.
ليبيا: أعلن (توني بلير) و(بوش) يوم 19 ديسمبر الماضي أن ليبيا وافقت، بعد 9 أشهر من المحادثات السرية، على الإعلان عن كشف وتفكيك كل ما لديها من برامج لأسلحة التدمير الشامل، وعلى جعل مدى صواريخها ضمن نطاق 300 كيلومتر فقط، وعلى فتح البلاد فوراً أمام عمليات التفتيش الشامل. وكما يفعل تاجر المخدرات عندما تمسكه الشرطة في الشارع، انقلبت ليبيا على جهات التوريد التي تعاملت معها فكشفت أمرها. ويقوم المسؤولون الآن، بعد التزود بمعلومات مصدرها إيران، بإحكام الحصار على شبكة دولية مفتوحة من المورّدين والوسطاء أتاحت لكلا البلدين ولكوريا الشمالية مراكمة المعدات التكنولوجية المتطورة الضرورية لصناعة الأسلحة النووية. وقد برزت باكستان بوصفها مصدر التوريد الرئيسي إلى الدول الثلاث.
إيران: أعلنت إيران عن تعليق عمليات تخصيب اليورانيوم السري والسماح بإجراء عمليات تفتيش دولية موسعة ومباغتة. وأتى القرار الإيراني بعد يومين من المفاوضات المكثفة بين كبار المسؤولين الإيرانيين ووزراء خارجية كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وقال أحد مسؤولي الاتحاد الأوروربي (إنه نجاح حقيقي لسياسة التفاوض التي أتت بديلاً لسياسة المواجهة الأميركية)·
وقد كانت لهذه التحولات التامة انعكاسات عميقة. ففي العقد الماضي، كنا نرى هذه البلدان كخطر نووي مركزي. ذلك أن في العالم 30 ألف سلاح نووي معظمها في أيدي روسيا، والولايات المتحدة، لكن هناك المئات منها في الصين وفرنسا وبريطانيا والهند وباكستان. ومن غير المرجح أن تعمد هذه الدول إلى استخدام تلك الأسلحة إلاّ في حالة اندلاع حرب في جنوب آسيا.
وللمرة الأولى في غضون 30 سنة، تقوم أمة ما بإنهاء برامج كهذه دون تغيير النظام.
فلماذا التغيير الآن؟ يزعم المحافظون أن زعماء ليبيا وإيران يتعاونون لأنهم يخشون ملاقاة مصير صدّام حسين. غير أن المضي إلى زعم أن الولايات المتحدة قادرة على شن هجمات عسكرية على هاتين الأمتين لا تندرج إلاّ في باب التهديد والوعيد والتبجح.
ويبدو من الواضح أن المال هو العنصر المهم لدى ليبيا وإيران وكوريا الشمالية. فالشرط الرئيسي لانضمام إيران إلى اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي يقتضي منها التخلي عن تخصيب اليورانيوم، وهي صفقة تساوي مليارات الدولارات. ويلتزم الأوروبيون الآن باستخدام (قوتهم اللينة) لاستخراج حسن السلوك من الأمم التي تربطها علاقات اقتصادية قوية مع أوروبا. وقد أدرك القذّافي أنه يحتاج إلى الاستثمارات والأسواق الغربية لكي يبقى وينجو. وقد أدى تحمله للمسؤولية في قضية (لوكربي) إلى رفع العقوبات الدولية، لكن رفع العقوبات الأميركية يتطلب أيضاً إنهاء برامج أسلحة التدمير الشامل. وقال (بلير) إن القذّافي أتى إلى بريطانيا باقتراح لتنفيذ ذلك حرفياً في مارس الماضي، أي قبل بدء حرب العراق. وهناك أدلة تشير إلى أن الحافز الأكبر كان استعادة العلاقات الاقتصادية.
ويبدو من الواضح أيضاً أن التعاون الأوروبي الأميركي قد حقق التوازن الصحيح بين الدبلوماسية والقوة. والتهديد الأميركي باق، لكن الاستراتيجية الأوروبية الدبلوماسية هي المهيمنة الآن. والولايات المتحدة باتت بسبب مستنقع العراق تميل إلى المحادثات أكثر من ميلها إلى القتال. وقد بدأ (باول) في مقالاته وخطاباته الترويج لـ(استراتيجية الشراكات)، وهي سياسة واشنطن التقليدية، لكنها تشكل د