توجد الآن أدلة مثيرة للاهتمام تؤكد أن باكستان قامت في العقد الأخير ببيع معرفة وتكنولوجيا الأسلحة النووية إلى كوريا الشمالية وإيران وليبيا، أو بتبادلها مع تلك البلدان الثلاثة. ويمثل ذلك تهديداً خطيراً للنظام الدولي المعني بمنع الانتشار النووي، وهو تهديد لا بد من ردعه إذا كانت هناك رغبة في تجنب انطلاق سباق تسلح نووي جديد في الشرق الأوسط وآسيا. وعلى رغم أن حكومة إسلام أباد تفشي القليل من التفاصيل حول نشاطاتها الماضية، فإنها ملزمة أيضاً بالاعتراف بتواطئها في هذه المسائل، ومن أخطرها الاتهام الموجه إلى باكستان بخصوص بيعها وحدات الطرد المركزي الغازية إلى الدول الثلاث المذكورة آنفاً. ومن المعلوم أن وحدة الطرد المركزي الغازية مؤلفة من أنبوب مجوّف مصنوع بدقة متناهية ويدور بسرعة هائلة بحيث يمكن فيه فصل جزيئات اليورانيوم 235 عن جزيئات اليورانيوم 238 الأثقل، ليتم استخدامها بعدئذ في صناعة الرؤوس الحربية النووية. وهناك حاجة إلى عمل الآلاف من وحدات الطرد المركزي لمدة أشهر كثيرة حتى تتسنى مراكمة كميات من اليورانيوم 235 تكفي لصنع قنبلة نووية، غير أن العملية يمكن إخفاؤها عن الأقمار الاصطناعية وبالتالي تبقى عصيّة على الكشف لفترة طويلة من الزمن. وقد جرى استجواب مصمم ومروّج برنامج وحدات الطرد المركزي الباكستانية الدكتور عبد القادر خان حول دوره في توزيع تكنولوجيا الطرد المركزي إلى كوريا الشمالية ، وربما إلى الصين أيضاً.
وعلى رغم هذه النشاطات، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها يجدون أنفسهم في مأزق عندما يكون الأمر متعلقاً بممارسة الضغط على باكستان التي صارت منذ 11 سبتمبر 2001 حليفاً رئيساً في الحرب على الإرهاب، وعلى منظمة (القاعدة) بوجه خاص. ولولا مشاركة باكستان الفاعلة، لما كانت حملة الإطاحة بنظام (طالبان) ممكنة. وعلى رغم أن أفغانستان أفضل كثيراً مما كانت عليه تحت حكم (طالبان)، يبقى الوضع الأمني فيها خطيراً، حيث ما زالت فلول (طالبان) تعمل في المنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان. ويضاف إلى ذلك وقوع محاولتين لاغتيال رئيس الوزراء برويز مشرف. ولو أن (مشرّف) لقي مصرعه، لبقي الجيش الباكستاني مسيطراً بقوة على زمام الحكم· لا يوجد هناك ما يضمن أن خليفته سيكون مثله ميالاً كثيراً إلى أميركا. وهناك خوف من إمكانية استيلاء مجموعة راديكالية من الضباط الموالين لـ(طالبان) على البلاد وأسلحتها النووية. ومن شأن تطور كهذا أن يضع حدّاً للآمال بحدوث تقارب بين باكستان والهند وأن يستحدث ظروفاً توجب شن حرب استباقية، وهو عمل ربما تقوم به الهند هذه المرة وليس الولايات المتحدة.
ولذلك فإن في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها -ومن بينهم الهند- الحيلولة دون تحقق الإطاحة العنيفة بالجنرال (مشرّف)، وكذلك التعاون معه في القضايا الأمنية الإقليمية التي تشتمل على أمن بلاده باكستان. وتكمن المفارقة في أن أحداث 11 سبتمبر والحاجة إلى المساعدة من باكستان كانا عاملين حالا دون وضع باكستان في (محور الشر) الذي أطلقه الرئيس (بوش)، ولا سيما في ضوء دعم باكستان للإرهاب في إقليم كشمير المتنازع عليه وفي ضوء نشاطاتها الخطيرة المعنية بانتشار الأسلحة النووية. وعلى رغم ذلك فإن في وضع باكستان وفي علاقاتها الغامضة مع الولايات المتحدة انعكاسا لحقيقة عالم الجيوبوليتيكا (أي السياسة الطبيعية المعنية بالعوامل الجغرافية والاقتصادية والبشرية)، وهو عالم لا يمكن فيه وضع الفوارق الدقيقة الواضحة المعالم ما بين الخير والشر. ومن الملائم جداً لإدارة (بوش) أن تدفع قضية الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط الكبرى وأن تكون منتقدة للبلدان التي تربطها بها علاقات سيئة، ومنها إيران وسوريا مثلاً. غير أن المنطق يقتضي في أية حال أن تعترف إدارة (بوش) بأن أصدقاءها الرئيسيين في المنطقة -باكستان هي المثل الرئيسي- ليسوا من الديمقراطية في شيء، وبأن السبب الوحيد الذي يجعلهم بمنأى عن غضب (واشنطن) هو كونهم حلفاء ذوي أهمية في الحرب على الإرهاب. وكسب الحرب على الإرهاب هو من المنظور الأميركي أكبر أهمية وشأناً من جلب الديمقراطية إلى المنطقة، هذا على الأقل في الأمد القصير.
ومن الناحية النظرية، ينبغي أن تسير عملية رعاية وتغذية الديمقراطية يداً بيد مع عملية احتواء (الإرهاب الإسلامي). غير أن إدارة (بوش)، من الناحية العملية، واقعية جداً في أولوياتها ومن المرجح أن تستمر في تسكين وتهدئة الأنظمة اللاديمقراطية التي تساعد الولايات المتحدة في حربها مع منظمة (القاعدة). أما التحدي الذي يجسده التعامل مع باكستان فيعني أن نشاطها النووي من الممكن، إذا لم يتم كبحه، أن يشكل الخطر الأكبر على الإطلاق: أي في حال نقل المواد النووية إلى الجماعات الإرهابية. ولذلك لا بد للولايات المتحدة من ممارسة منع أكبر لحدوث المزيد من التسربات من باكستان دون التعجيل في حدوث مواجهة مع نظام برويز مشرّف. ولن تكون تلك مهمة سهلة.