غصَّ الشهر الأخير من السنة الماضية (2003) بالأحداث المهمة لجهتي السلب والإيجاب· بيد أنّ ما أودُّ التركيز عليه هنا، مما له تعلقٌ بقضية التغييـر حدثان اثنان : دعوة مجلس التعاون الخليجي في اجتماعه في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر لإصلاح مناهج التعليم في الدول الداخلة فيه· والحدثُ الثاني تكوُّنُ (مجلس شورى أهل السنة والجماعة) في العراق في 25/12/2003·
أما الحدث ُ الأول: فهو الإشارةُ الأولى الرسمية والجماعية، لتأثيرات أحداث 11/9/2001 وما تلاها من دعواتٍ أميركيةٍ لإصلاح التعليم الديني في المدارس الدينية، وفي مناهج التعليم العامّ· فقد رأى الرسميون الأميركيون، وبعض المعلّقين الاستراتيجيين، وكُتّاب الإسلاميات والشرق أوسطيات في الصحف السيّارة أنّ تلك المدارس والمناهـج تفرّخُ أُصوليين، وذكروا أمثلة على ذلك (طالبان)، ومنظمة (القاعدة)· وقد باشرت دولٌ عربيةٌ وإسلاميةٌ القيام بإجراءاتٍ بالتشاور مع الأميركيين، أو بدون ذلك: إنْ لجهة ضبط المدارس الدينية العشوائية أو الخاصّة التي لا تخضعُ لإشراف الدولة، أو لجهة النظر في البرامج التعليمية الدينية وغير الدينية من أجل التحديث والتطوير· وقد كانت اهتماماتُ الأميركيين الفعلية مثارَ خيبةٍ واندهاش· فهم لم يهتموا عند مشاورتهم وعرض البرامج عليهم إلاّ بما سمَّوه التمييز والعداء للسامية وإسرائيل· ومن المهمّ أن نتعرف على التجربة العملية الأميركية في العراق، فقد أعادوا (بمعاونة عشرات العاملين معهم من العراقيين طبعاً) كتابة سائر برامج التعليم العام هناك· وما دخلوا فيما نعلم في إشكال تأليف كتب التعليم الديني· لكنْ ماذا فعلوا بكتب التاريخ والجغرافية والتربية المدنية ؟ هذا ما لم يتّسع الوقتُ للاهتمام به حتى الآن؛ لكنّ القراءة المتفحصة ضروريةٌ لمعرفة (برنامجهم) لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان! ومع انفجار ردود الفعل الدينية وغير الدينية على الحرب الأميركية على الإرهاب، وامتداد العنف والتفجير إلى الدول العربية والإسلامية، وظهور تنظيمات وشبكات مرتبطة بـ(القاعدة) أو مستقلّة؛ بدا أنّ للعرب والمسلمين مصلحةً أيضاً في النظر في البرامج الدينية؛ بغضّ النظر عما يريده الأميركيون ولا يريدونه· وهكذا فقد كانت التوصيةُ في اجتماع مجلس التعاون الخليجي ردة فعلٍ مؤسسية ستكون لها آثارها التغييرية بالتأكيد في السنوات القليلة القادمة· والدليلُ على ذلك أنه بعد اجتماع مجلس التعاون وتوصيته السالفة الذكر، انفجر مباشرةً نقاشٌ علنيٌّ حول المسألة في الكويت· ثم جرت مناقشة الموضوع بالتفصيل في اجتماع مؤتمر الحوار الفكري الثاني بمكة (29-31/12/2003)؛ حين قدَّم أحد المشاركين في المؤتمر (عبد العزيز القاسم) في محاضرةٍ طويلةٍ مشروعاً متكاملاً للتغيير في البرامج الدينية في مدارس التعليم العام في المملكة العربية السعوديـة·
كانت حُجَجُ المعترضين على التعديل والتغيير في المناهج الدينية، ذات اتجاهين: اتجاه يعتبر أنه لا يجوز القيام بتغيير (ديني) بضغوطٍ من الخارج، بينما رأى الاتجاه الآخر المحافظ السلفي أنَّ المقررات تمثّلُ الدين الصحيح، والخروجُ عليها خروجٌ على العقيدة المستقيمة· وقيلت الحجتان بأشكالٍ مختلفةٍ طَوالَ الشهور الماضية· وآخِرُ مظاهر ذاك الاحتجاج ردّة الفعل السَلَفية على التوجهات الإصلاحية في مؤتمر الحوار الفكري الثـاني بمكة· فقد أصـدر مئة وخمسون عالماً سعوديـاً (كان اثنان منهم ضمن الحاضرين للمؤتمر) بياناً يدعو للتمسك بعقيدة الثُنائيتين : التوحيد / الشرك، والولاء / البراء· والمعروفُ أنّ الثُنائيةَ الأولى تتعلقُ بالتعامُل الداخلي بين المسلمين ؛ بينما تتصل الثُنائية الثانية بالعلاقة بالآخر غير المسلم· وأحسبُ أنّ هذا الصراعَ الشديد الأهمية والدلالة (صراع البيانات والبيانات المضادّة خلال عام 2003 في المملكة العربية السعودية بالذات) هو في الحقيقة صراع على السلطة الدينية والثقافية والمعرفية، وهناك مصالح كبرى مرتبطةُ به· فالسلفيون قسمان رئيسيان؛ القسم القديم، الذي تستوعبُهُ المؤسسةُ الدينية، والقسمُ الجديد، الذي تمردت أجزاءُ كبيرةٌ منه على المؤسسة، وترجو برفع الصوت ألا تُماشي السلطة السياسية أو الدينية الإصلاحيين· والواقع أنّ موقف السلطة السياسية حاسمٌ، ليس لجهة الانحياز لهذا الطرف أو ذاك؛ بل لجهة إطلاق الحوار وحماية أمنه وحريته· فقد غَبَرَ زمنٌ كانت فيه السلطتان تتبادلان التأييد والدعم بدون تحفظٍ ولا ظهور تناقُضٍ مهما صَغُر· من مثل (الإذعان الظاهر) من جانب السلطة السياسية لرجال الدين أثناء حرب الخليج الثانية، بمنع النساء من قيادة السيارات· ومثل إصدار مفتي المملكة فتوى تُحرّمُ التظاهر باعتباره عدواناً على الإسلام والنظام العـامّ، بعد تصـدّي رجال الأمن لتظاهرةٍ صغيرةٍ في مطلع شهر نوفمبر عام 2003·
ويبدو لي أنّ المطلوب الآن التخلي عن وهمين اثنين: وهم إمكان استخدام الإسلام لصالح النظام، والوهم الآخر: إمكان استبعاد الإسلام من دائرة التأثير الاجتماعي و