المعتاد هو القول إن العلاقات بين الدول لا تدخل فيها العاطفة· فالسياسة ذاتها أمر لا علاقة له بالعاطفة والاستراتيجيات الدولية بالذات يجب أن ترسم بعقل بارد لا شأن له بالمشاعر الانسانية· والحكمة الخالدة في السياسة هي القول إنه (لا يوجد عدو دائم أو صديق دائم وإنما مصالح دائمة)·
ولكننا نرى تغيرات مهمة في حقل العلاقات الدولية إلى الحد الذي يجعلنا نعتقد أن معنى جديدا للسياسة بل وللعلاقات الدولية يبزغ الآن وقد يحدث تحولا جذريا في نمط العلاقات بين الدول والشعوب·
خذ مثلا ما حدث في لبنان بعد حادث الطائرة المأساوي· شعر اللبنانيون بالوحدة العاطفية على نحو لم يحدث منذ سنين· فثمة شيء مؤثر لم يروه من قبل على رغم أنه تحت أعينهم طول الوقت: تجربة الهجرة الطويلة سواء للعمل أو للاقامة في المهاجر الحديثة والقديمة سواء في البرازيل أو في ساحل العاج والتي قد تنتهي ليس بخسارة مدخرات العمر فحسب بل والحياة ذاتها أيضا· المفترض أن هذه التجربة تعني الفراق أو التفرق ولكنها أثارت شعورا عميقا بوحدة المصير لدى اللبنانيين: تجربة موت مأساوي بعد رحلة شاقة مع الحياة في بلاد المهجر لم تقدم لهم فيها الدولة دعما سياسيا أو دبلوماسيا بل لا تكاد تدري بهم إلا بعد أن يحققوا المجد ويعودوا كمستثمرين أو أصحاب أسماء رنانة· ثمة رؤية مشتركة تكونت عن عاطفة الحزن على مصير ضحايا الطائرة: رؤية تقول إن على الدولة اللبنانية أن تكون مع مواطنيها في الخارج وأن تقاسمهم آلامهم وتساعد على حل مشكلاتهم وليس مجرد أن (تقبض) منهم سواء ضرائب أو استثمارات أو رشاوى· وقد يتمخض عن تجربة الحزن أو الألم هذه معنى جديد للدولة· أعني أن العاطفة هنا قد تولد معنى جديداً للسياسة في لبنان·
التجربة المصرية الفرنسية: وشيء كثير من هذا المعنى برز خلال محنة الطائرة المصرية المنكوبة والتي سقطت في البحر الأحمر· هناك مشهد جديد لم تجربه مصر حتى عندما سقطت طائرة مصر للطيران قرب الشواطىء الأميركية منذ عدة سنوات· انظر إلى الطريقة التي تصرف بها رجال الدولة الفرنسيون· لم يتعاملوا مع المسألة وكأن هناك أرقام ضحايا· بل تعاملوا مع أرواح ضحاياهم وكأنهم أقرب إليهم من عائلاتهم ذاتها· والمشهد الذي نتحدث عنه صار يوميا: فهناك رجال دولة فرنسيون مع رجال البحث، ثم هناك نوع من الجنازة التعبيرية التي يحضرها وزير الخارجية دومينيك دوفيلبان· وخلال الأيام السبعة التالية لوقوع مأساة الطائرة المصرية نجد مئات من الناس يتجمعون معا أمام شاطىء شرم الشيخ وهم يشخصون ببصرهم صوب الماء والفضاء والرموز البعيدة للحياة والموت ولمعنى الوجود الانساني· يتجمعون بالعشرات وبالمئات في مواقع مختلفة من الشاطىء: فرنسيون وسياح آخرون من أوروبا: ألمان وإيطاليون وهولنديون ومن جنسيات أخرى مع المصريين المقيمين هناك لسبب أو آخر· يسهل عليك تماما أن تعرف ما يوحدهم: تجربة الموت المشترك بغض النظر عن الملابسات: من هو صاحب الطائرة أو من يسافر بها وكيف وقع ما وقع، فقط تجربة الموت المشترك عبر البحار والمحيطات وعلى رغم المسافات الفاصلة بين البلدين: مصر وفرنسا أو بين الحضارتين: العربية الاسلامية والغربية· ولا تجد هنا حالة تأمل عقلي محض بل حالة عاطفية متقدة حيث تنصهر الانتماءات في انتماء مشترك ويبحث الناس عن معنى واحد لوجودهم وتجاربهم بالغة التنوع·
الاستعراض العاطفي: إن بعض هذه التدفقات العاطفية العميقة تلقائي بحت وهو يجبر الساسة على أن يقوموا بما يقومون به· وبعضه الآخر فيه شيء من التوجيه والإدارة: أو العرض العاطفي· ولكن حتى في هذه الحالة الأخيرة يلفت النظر أن العروض العاطفية الجماعية وذات الصلة بالعلاقات الدولية صارت أكبر عددا وأكثر أهمية من العروض العسكرية· بل وقد تقاس القدرة السياسية لرجال الدولة باستجابتهم السريعة لتلك الحاجة العاطفية الشعبية أو بمهارتهم في عرضها على الرأي العام العالمي وتحريكه سياسيا من خلال هذه العروض العاطفية· وعلى سبيل المثال نجحت مصر في تنظيم (مشهد عاطفي دولي) كبير اثناء نكبة زلزال عام 1992 بينما بكل أسف فشلت إيران في عرض هذا المشهد الانساني الهائل والذي تضمن مقتل 50 ألف انسان في ثوانٍ قليلة وهو عدد يتجاوز بمراحل ضحايا الزلزال في مصر· بل إن إيران لم تنجح في عرض المأساة الثقافية المرتبطة بالزلزال وهو أمر كان يكفي لإثارة تعاطف وفهم هائل لإيران على المستوى العالمي· وهناك حالة وسيطة في الجزائر حيث فشل الرئيس الجزائري في التلامس العاطفي مع شعبه في الوقت الذي نجح فيه بامتياز في التعامل مع العالم الخارجي في أزمة زلزال الجزائر العام قبل الماضي· ويلفت النظر هنا أيضا أن الرئيس الجزائري تعامل بمهارة دبلوماسي كبير ومحترف للحصول على عائد سياسي من دبلوماسية الكوارث الطبيعية أثناء الزلزال نفسه الذي ضرب الجزائر وبصورة خاصة في التعامل مع الولايات المتحدة وادخالها بدرجة أكبر لموازنة النفوذ الفرنسي في الجزائر· أما في إيران فقد رفض الرئيس محمد خاتمي أن يقوم أو حتى