في الثقافة العربية الإسلامية الموروثة يقبع (الزعيم)· وهو مفهوم ترسب في وعينا التاريخي من الأنبياء كقادة للأمم ومخلصين للشعوب، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، أولو العزم· نوح ينقذ قومه في سفينة· وإبراهيم يقود أهله إلى دار الإيمان، وموسى يقف في مواجهة فرعون، وعيسى في مواجهة اليهود، ومحمد ضد أشراف قريش وساداتها·
ثم تحولت الخلافة بعد النبوة إلى ملك عضود، يتوارثه الأبناء من الآباء· وتتم البيعة لمعاوية بالعصي أو الجزرة· ثم يتأله الزعيم، ويصبح ظل الله في الأرض وليس خليفة للمسلمين أتى بيعةً، فالإمامة عقد وبيعة واختيار· ثم تحاول المعارضة زحزحة الزعيم، والخروج على الحاكم الظالم، والعودة إلى الشرعية، شرعية الشورى، والاختيار الحر من أهل الحل والعقد· ولا يفل الحديد إلا الحديد·
ويتجلي الزعيم أيضا في السيرة الشعبية، أبو زيد الهلالي، والزناتي خليفة، وسيف بن ذي يزن، ويقتل الزعيمُ الزعيمَ أمام تهليل الحاضرين وفي خيال السامعين· وفي الأدب الشعبي يظهر ابن البلد أو الفتوة الذي يجند الناس لمحاربة الظلم، ويحقق العدل بين الناس· وكما صور نجيب محفوظ في (الحرافيش) وفي (أولاد حارتنا)، جبل ورفاعة وقاسم في الماضي وعرفة في المستقبل، وكما ظهر في مسرحية (الزعيم) ورواية (سقوط الإمام)· والكل ينتظر الزعيم كلما اشتد الضنك، وعظم البلاء، وعم الإحباط، وساد العجز، (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً)·
والزعيم في الداخل وليس في الخارج، يتسلط على قومه سواء كان في الحكم أو في المعارضة· الزعيم في الحكم يزج بالمعارضين في السجون أو يصفيهم جسديا· وإذا ثارت جماعات ضده قضى عليها، ووضعها في مقابر جماعية، واستعمل كل وسائل الفتك والهلاك، القذائف والحرائق· وهرب الباقي إلى الخارج· وكوّنوا بؤراً للمعارضة في عواصم البلدان الأخرى· ولا ضير في التعاون مع أعداء الوطن في الخارج ما دام لهم عدو مشترك في الداخل· ولا ضير أن تأتي المعارضة في الخارج على أسنة الرماح وفوهات المدافع وأزيز الطائرات كي يكونوا حكاما بديلا عن الزعيم· بل إنه يطيع أوامر الخارج، مرة بالعدوان على جاره الإسلامي في الشرق، ومرة أخرى على جاره العربي في الجنوب، مدمرا قواته مرتين، والعدو في الغرب، يحتل فلسطين أكثر من خمسين عاما·
ولما بدأ الزعيم يشق عصا الطاعة، ويقوم بلعبته الخاصة، ولحسابه الخاص صدر الحكم بإعدامه، بالحصار على شعبه أكثر من عشر سنوات ثم بالعدوان عليه مرتين تحت عدة ذرائع، أسلحة الدمار الشامل، الإرهاب، التسلط والديكتاتورية· وقررت التخلص منه بالعدوان العسكري حتى ولو كان خارج إطار الأمم المتحدة· وتم لقوات التحالف ما أرادت· وتم القبض عليه وإذلاله وهي تعاني من اشتداد القتال ضدها· وهذا جزاء من يشق عصا الطاعة، عصا معاوية دون جزرته، القوة المسلحة للقضاء عليه· والعرب يتفرجون· والبعض منهم يتحالفون· وفريق ثالث يرتعش خشية أن تدور عليه الدائرة· فالتسلط تهمة الجميع، والتلويح بالعصا في وجه الكل·
وترتعد فرائص باقي الزعماء المحاصرين بين مطرقة الخارج وسندان الداخل· فيهب زعيم آخر كان يوما ما من زعماء الرفض، والمطالبة بالحد الأعلى في القضايا الوطنية· وينتقل من القومية العربية إلى الاتحاد الأفريقي· فلم يعد يطيق خذلان العرب، ولا عجزهم عن الوقوف أمام الولايات المتحدة الأميركية لفك الحصار عنه· يخشى من النموذج الأول فيسير وفقا للنموذج الثاني· يترك نموذج الكراهية ويفضل نموذج الطوع طبقا للآية الكريمة (وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها)· وأعلن بلا مقابل وبلا سابق إعلان للجماهير العربية التي طالما وجّه الخطاب إليها عن تدمير أسلحة الدمار الشامل التي طالما أنكر وجودها· بل ويطالب باقي الأقطار الشقيقة خاصة سوريا، والجولان مازالت محتلة، بالاقتداء بالفعل نفسه، والسير في النموذج نفسه، التخلي طوعا عن أسلحة الدمار الشامل دون التوجه إلى إسرائيل بالنصح نفسه· ويسرع قادة الغرب بالثناء عليه، بريطانيا وأميركا، ويمدحون هذه الخطوة الشجاعة من الزعيم الهمام الذي انقلب في غمضة عين من العداء للغرب الاستعماري إلى التسليم بمطالبه، والدفاع عن حقوقه، أملا في رفع الحصار عنه· ويدعو الشركات الأجنبية، البريطانية والأميركية، للقدوم إلى البلاد من أجل الاستثمار· ويدخل بيت الطاعة بعد أن كان ناشزا·
وحدث الشيء نفسه بالنسبة إلى إنكار تدمير الطائرتين الأميركية والفرنسية ثم القبول بالمسؤولية ودفع التعويضات بمليارات الدولارات، تحولا مئة وثمانين درجة، من النقيض إلى النقيض· وأصبح أشهر نموذج لعدو الغرب صديقا له دون التفوه ببنت شفة عن حقوق الإنسان في الداخل وتصفية الخصوم السياسيين، وتكميم أفواه المعارضة، وانتهاك حقوق الإنسان، والفساد، والرشوة· فما يهم الغرب هو استسلام الحكام وليس مصالح الشعوب، إنهاء النتوءات البارزة والنغمة النشاز في العلاقات الدولية التي تحددها القوى الكبرى وليس الحرية والديمقراطية للشعوب·
والآن على باقي الزعماء الخيار ب