تؤكد وثائق أرشيف الأمن القومي الأميركي التي نشرت مؤخراً أن العلاقة بين صدام حسين والولايات المتحدة كانت علاقات عميقة ووطيدة وتعود إلى بداية السبعينيات، وترسخت بشكل رسمي في بداية الثمانينيات بعد لقاءات بين كبار المسؤولين في البلدين، شمل قسم منها صدام حسين شخصياً· كذلك فإن الوثائق البريطانية تؤكد بدورها أن العلاقة مع صدام بدأت في نهاية الستينيات· وأن ثمة رهاناً كان قائماً على هذا الرجل في أميركا وبريطانيا لأنه وكما ورد في الوثائق رجـل (يعرف كيف يقدّم نفسه) و(شخص لايستهان بـه)و(جدير بالاهتمام، قاسٍ جداً وعملي وذكي! )
لماذا توطدت العلاقة؟
كانوا يريدون علاقات جيدة بين العراق وإيران الشاه· وكان الأميركيون يتابعون بدقة مواقف العراق وصدام خصوصاً في مراحل الحوار العراقي الايراني للوصول إلى اتفاق عام 1975· وكان لصدام دور أساس فيه· فالاميركيون كانوا يعتبرون إيران الشاه ضمانة وموقعاً متقدماً في مواجهة المدّ الشيوعي! ويريدون أن تكون العلاقات العربية -الإيرانية جيدة· وبالتالي كانوا يريدون اتفاقاً بين العراق والدول المحيطة، وترسيم حدود وتعاوناً بين الجميع وبين الشاه الإيراني·
وعندما دخل الاتحاد السوفييتي افغانستان دعمت أميركا بن لادن وهي تعرف نشأته وتربيته وثقافته وتوجهاته! لكنها ومن أجل مصالحها تستخدم كل شيء· فلا مكان هنا للقيم والمبادئ· إن الموقع الأول في السياسة وخصوصاً على مستوى دولة عظمى مثل أميركا هو للمصالح· والمصالح فقط· لذلك استخدم بن لادن بـ(أصوليته) وإرهابه مع (طالبان) باسم حرية الشعب الافغاني، ولكن فعلياً على حسابه من أجل مواجهة الخطر الاكبر: المدّ الشيوعي· وعندما قامت الثورة في ايران، برز في نظر أميركا واسرائيل الخطر الاسلامي الذي لا بدّ من مواجهته كي لا تنتشر الثورة الايرانية· فكان لا بد من استخدام صدام في الجهة الأخرى·
وهكذا عندما يقارنون بين صدام وبن لادن، أو يتحدثون عن علاقات بينهما، يجب الاّ ننسى تاريخهما وفق الوثائق البريطانية-الأميركية، وعلاقاتهما مع الأميركيين، كما لا ننسى أدوارهما في مواجهة المخاطر التي تهدد أميركا -من وجهة نظرها- وليس في مواجهة المخاطر التي تهدد العرب والمسلمين وعلى رأسها الإرهاب الإسرائيلي المستمر·
لقد استخدموا (بن لادن الاسلامي ) ضد المدّ الشيوعي· ثم رموه ودمروا أفغانستان· واستخدموا (صدام العربي) ضد (إيران الاسلامية(ثم اسقطوه وأسقطوا معه المنطقة في فوضى كبيرة· إنهم على استعداد لاستخدام كل شيء من أجل مصالحهم والتخلي عن أي شيء عندما تقتضي مصالحهم ذلك أيضاً!
ليس في هذا الكلام دفاع عن صدام أو بن لادن أو تبرير لسياساتهما فنحن كنا ضد الاثنين من الأساس· وقفنا ضد التدخل السوفييتي في افغانستان· ووقفنا ضد القوى المتطرفة التي تكفّر الناس وتفرض تقاليد وأنظمة لا تنسجم مع تطلعاتنا، مثل بن لادن وصدام· كنا ضدهما طوعاً وإرادياً وبكل قناعة نابعة من الالتزام بالثوابت السياسية الديمقراطية الليبرالية كي لا أقول العلمانية، ولأننا كنا ولا نزال من دعاة الانفتاح والحوار ورفض الإرهاب والتسلطّ والقمع والهيمنة واستغلال ثروات الشعوب·
لكن الاشارة إلى هذا الامر هنا تأتي في سياق التدليل على التباعد بين العناوين والأهداف الأميركية وبين الشعارات المعلنة· فالوثائق الأميركية تقول: (إن الإدارة الأميركية انتقدت استخدام العراق أسلحة كيمياوية ضد الأكراد وإيران في مرحلتين مختلفتين ولكنها أكدت للمسؤولين العراقيين أن ذلك لن يؤثر على تطور العلاقات بينهما!)·
وهذا ما جرى بالفعل عندما أقيمت علاقات رسمية عام 1984 بين أميركا والعراق، بعد استخدام الأسلحة ضد إيران ثم استمرت العلاقة وتطورت بعد استخدام الأسلحة ضد الأكراد وكان وزير الدفاع الحالي رامسفيلد هو الذي يتولى الاتصال بالمسؤولين العراقيين وعلى رأسهم بطبيعة الحال صدام حسين· إلاّ أن الكونغرس الأميركي اتخذ قراراً يحظر على الشركات الأميركية العمل في العراق بعد مجزرة حلبجة!
لكن الشركات الأميركية لم تلتزم بالقرار· فالسفيرة الأميركية السابقة في بغداد ايبريل غلاسبي تقول -حسب الوثائق الأميركية دائماً- إن ممثلي شركة ( بكتل)أبلغوها، (أنه إذا تحول الحظر إلى قانون فانهم سيلجأون إلى استخدام موردين غير أميركيين لكي يحتفظوا بعقد كبير في العراق كانت بكتل مع شركات أميركية أخرى قد فازت به لاقامة الجزء الثاني من مصنع بتروكيمائي تبلغ تكلفته ملياري دولار، وكان نصيب الشركات الأميركية منه 300 مليون دولار).
وقال جيم فاليت من مركز الطاقة الدائمة في واشنطن، لصحيفة (الشرق الأوسط) منذ أيام : (لقد أرادت الشركة كسب المال فقط· ولم يكن يعنيها ما كان يحدث للأكراد جراء بعض منتجات المصنع).
هكذا تبنى مصانع الأسلحة، ويدفع العرب الثمن· تستخدم الأسلحة في