في الفترة الماضية نشرت حلقتين متقاربتين تحت عنوان (عاطفة التدين) و(سيل التدين). في المقال الأول تعرضت لبعض الظواهر التي أعتقد أنها تشير إلى أن تدين البعض يتمحور حول العاطفة بدلا من العقل مما أدى إلى بعض التجاوزات التي نراها عند بعض المتدينين· أما المقال االثاني فكان عبارة عن اقتراحات للدول العربية المسلمة للتعامل العلمي مع التدين لأنه واقع في مجتمعاتنا وليس ظاهرة طارئة·وقد نشرت (الاتحاد مشكورة) تعليقين كريمين حول المقالين الأول بقلم السيد محمد العفاري تحت عنوان (التدين عقل رشيد) والثاني بقلم السيد حمد الظاهري وهو (ترشيد عاطفة التدين)، وبدوري إذ أشكر الأخوين الكريمين على تجاوبهما مع المقالين وأحيي فيهما طيب الكلم ورجاحة المنطق وهذا عهدنا في القارىء العربي العاقل، وإنضاجا للموضوع لعلي أقتبس من التعليقين مقال هذا الأسبوع و الذي يجمع في مضمونه عنواني الردين الكريمين .
من أول القضايا في هذا الموضوع قضية النظرة الشاملة للإنسان فهو عقل وروح وجسد، وهذا هو جمال الإسلام· فلم يركز ديننا على بعد ويهمل الآخر· وللأسف الشديد نرى عند البعض خللا واضحا· فنرى من يهمل جسده على حساب روحه وآخر يهتم بروحه ويتجاوز عقله مما أدى إلى بروز الصورة المشوهة للمتدين فإذا كان ديننا يهتم بالجمال لمَ نركز على جمال الروح ونهمل جمال الإنسان كوحدة متكاملة؟ هذه الصورة المشوهة قدمت الإسلام للآخرين كرمز للتأخر وهو دين التقدم، عرضناه كدين جهل وأول كلمة فيه تحث على العلم وليس الصلاة أو الجهاد فهو دين اقرأ لأنه دون العلم، نخطئ حتى في عباداتنا فنسيء ونحن نريد الإحسان· فالمطلوب عود حميد لما فيه جمال شخصية الإنسان المسلم وهذا لا يتم دون نظرة شاملة لتربية المسلم روحيا وعقليا وجسديا .
المظهر الثاني من الخلل مصدره التركيز على الظاهر و إهمال الباطن أو ما يعرف في كتب التزكية الإسلامية تربية الظاهر على حساب تزكية القلب· وهذه المسألة قد تبدو بسيطة عند البعض لكنها كبيرة جداً ففي الحديث المشهور (إن الله لا ينظر إلى صوركم و إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم) أو كما هو وارد، فنجد الإنسان أول ما يهتم به أعمال الجوارح فيهتم بأداء الصلاة، وإيتاء الزكاة وغير ذلك من الفرائض وهي مهمة بلاشك، لكن هل يهتم بتنظيف القلب من الغل و الحسد و الحقد و الرياء· فبعض هذه الأمور تحبط الأعمال كما نعلم فأول من تسعر بهم النار يوم القيامة كما ورد في الحديث مجاهد ليقال له شجاع ومنفق ليقال جواد وتالٍ للقرآن ليقال قارئ· إن الخطأ الأساس الذي وقع فيه القوم هو اهتمامهم بظاهر العمل بينما كان مقصد القلب غير صحيح· مثل هذا الخلل يقود البعض إلى الحكم على الآخرين وإصدار فتاوى مخلة بحقهم، ولو راجع القوم قلوبهم لرأوا الخلل الذي هم فيه ومن هنا كان من الواجب على المسلم مراجعة الذات ودوام النظر لداخله بدلا من الاهتمام بالهيئة· هي مهمة بلا شك لكن جودتها تكمن في كمال صورة الداخل قبل الخارج .
أما المحور الثالث في هذا الإطار فهو اعتراف الإنسان بقصوره عن بلوغ الكمال· هذا الأمر يدفعه للتواضع واحترام التخصص وهذه القضية مهمة غاية الأهمية وهي سر تقدم دول الأرض علينا· فأحدنا يستطيع أن يفتي في التربية وعلم النفس والسياسة والاقتصاد وغير ذلك باسم الإسلام، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقال، وإذا كانت للسابقين مندوحة في القيام بذلك لقلة عمق مثل هذه الأمور فان القرن الذي نعيشه تميز بالتعمق الدقيق في كل مسألة، مما ذكرت بل حتى الأمور الشرعية فتحت فيها أبواب لم تكن معروفة في السابق· ومن هنا وجب على الإنسان الاعتراف بجهله في بعض المسائل· هذا الاعتراف يقوده إلى قول لا أعرف، وما أجملها من كلمة، والا دخل صاحبنا في باب الموقعين عن رب العالمين، وعندها وإن لم يكن على قدر هذا الأمر فقد ارتكب مخالفة لن يعرف عواقبها إلا يوم الدين.