بين ليلة وضحاها بدأت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية تتهاوى تباعا، وقف العالم بأسره مشدوها يرقب ما يحدث أمامه. كانت هذه الأنظمة تبدو -على الأقل في الظاهر- راسخة فما الذي حدث، وما هي الأسباب التي أدت إلى هذا التهاوي السريع؟ ومن الذي كان يقف وراء ذلك؟
للإجابة على تلك الأسئلة ركز المحللون السياسيون الغربيون على الرجال الذين اعتقدوا أنهم كانوا وراء ذلك التحول المثير. رجال من أمثال (ميخائيل جورباتشوف) في الاتحاد السوفييتي، و(فاكلاف هافل) في تشيكوسلوفاكيا، و(ليخ فاليسا) في بولندا.الكتاب الذي بين يدينا وعنوانه (كارنفال الثورة: أوروبا الوسطى عام 1989) يتناول المسألة من منظور يختلف عن ذلك الذي نظر من خلاله المراقبون والمحللون للمسألة في البداية. فمؤلف الكتاب (بادرايك كيني)، الأستاذ المساعد للتاريخ الأوروبي بجامعة كلورادو بالولايات المتحدة الأميركية، يذهب إلى القول إنه على رغم حقيقة أن هؤلاء الرجال قد لعبوا دورا في إسقاط المنظومة الشيوعية في أوروبا، إلا أن دورهم لم يكن هو الحاسم، كل ما هنالك هو أنهم ركبوا موجة الانتفاضات والحركات الشعبية التي انتشرت في تلك الفترة. ويقول (المؤلف) إن هذه الأنظمة كانت قد تآكلت من الداخل قبل الفصل الأخير بفترة طويلة، وأصبحت عبارة عن مجرد هياكل خارجية تخفي بداخلها كيانات هشة· وهو لا يقلل من أهمية الدور الذي لعبه جورباتشوف من خلال سياساته الشهيرة: البيروسترويكا (إعادة البناء)، والجلاسنوست (المصارحة)، ولا من الأدوار التي لعبها رجال آخرون من أبرزهم (فاكلاف هافل)، و(ليخ فاليسا)·· ولكنه يقول إنه كانت هناك بالفعل حركات وتيارات نشطة وفاعلة ، لعبت دورها التمهيدي في خلخلة النظام الشيوعي، قبل أن يأتي هؤلاء الرجال في النهاية كي يركبوا الموجة، ويتولوا زمام قيادة تلك الحركات. والمؤلف يُرجع تلك الحركات والتيارات إلى حقبة السبعينيات والبدايات المبكرة للثمانينيات، ويقول إن التأثيرات التي أحدثتها كانت هي التي مهدت الطريق لما حدث في نهاية حقبة الثمانينيات، وهي التي هيأت المسرح لظهور الديمقراطية.
ففي سلوفينيا، وأوكرانيا الغربية، وألمانيا الشرقية، وتشيكوسلوفاكيا وفي بولندا -على وجه الخصوص- ظهرت طوائف من الشباب الثائر المتحمس، الذي نزل إلى الشوارع رافعا أجندات تبدو بريئة في ظاهرها. لم يكن ممكنا لهؤلاء الشباب في البداية أن ينزلوا إلى الساحة معلنين معارضتهم الصريحة للأنظمة.. لأن المناخ السائد لم يكن يسمح لهم بذلك. وبسبب إدراكهم لهذه الحقيقة، لجأ هؤلاء الشباب، إلى تبني قضايا لا تستفز الأنظمة، مثل قضايا مكافحة الكحوليات، وحماية البيئة، وتحسين الخدمات. وأدت أنشطة تلك الجماعات الساخطة من الشباب تدريجيا إلى تحفيز مجموعات أخرى نزلت بدورها إلى الشارع مطالبة بأجندات مماثلة- أو مختلفة. وشيئا فشيئا خرج الأمر عن حدود سيطرة الأنظمة وتحول إلى (كارنفال) سياسي. يقول المؤلف إن هذا الكرنفال شمل أنواعا من التهريج والسخرية اللاذعة، حيث طرحت جماعات من هؤلاء الشباب ما يعرف بـ(البديل البرتقالي) كي يحل محل البديل الأحمر الذي هو الشيوعية.
كانت لدغات هذه المجموعة من الشباب الساخر الذين كانوا يقومون بطلاء وجوههم بالأصباغ، ويرتدون ملابس غريبة، ويستخدمون الرسوم الكاريكاتيرية، ويطلقون على دعوتهم أو حركتهم اسم (حركة السريالية الاشتراكية) هي الأشد إيلاما للأنظمة التي وقعت فريسة للسخرية، وبدأت تفقد صرامتها المعهودة. هنا قد يتبادر إلينا سؤال هو: كيف تحولت تلك الحركات الشبابية، إلى قوة سياسية فاعلة وقادرة على إسقاط الأنظمة الشيوعية؟· يقول المؤلف إن تلك الحركات تمكنت من ذلك لأنها كانت تعبيرا عن السخط الشعبي المكبوت ، وهي التي أتاحت الفرصة لهذا الغضب أن ينفجر ويطيح بكل شيء. وهو يزعم أن الخطأ الذي وقع فيه المراقبون والمحللون السياسيون في تفسير ظاهرة الكرنفال الثوري في أوروبا الوسطى والشرقية، يتمثل في أنهم حاولوا العثور على إجابات الأسئلة الملغزة في صالونات السلطة، وحلقات المثقفين المشهورين بدلا من البحث عنها في الشارع، وفي صفوف تلك الحركات. ويلاحظ أن الكاتب قد استفاد من معرفته العميقة بالواقع البولندي، و التي اكتسبها من خلال وجوده في هذا البلد في العهد الذي شهدت فيه حركة التضامن ذروة مجدها، وقام بمزجها مع حسه العميق، وتكوينه العلمي كمؤرخ، ليقدم لنا صورة شديدة الوضوح، وإطلالة معمقة على ما كان يدور في عقول وقلوب ذلك الشباب الساخط الذي تمكن بعد أن استجمع قوة دفع رهيبة من أن ينطلق خارجا عن نطاق السيطرة، ومتبنيا لأجندات اقتصادية وسياسية بل وعسكرية صريحة. ولم يقتصر الأمر على ذلك حيث تجاوزت بعض تلك الجماعات كافة الخطوط الحمراء واتصلت فعليا بالجماعات والحركات المماثلة في الدول الشيوعية المجاورة.
لقد تمكنت تلك الحركات في النهاية من التغلب على خوفها من السلطة وتحدتها علنا، لتنتشر بعد ذلك انتشار النار في الهشيم على النحو الذي شهدناه عامي 1988 و1989، وتمه