مؤلف هذا الكتاب هو أليستر سباركس، أحد أعمدة الصحافة وكبار أعلامها في وطنه جنوب إفريقيا. علاوة على ذلك فهو مؤلف أحد أفضل الكتب وأكثرها موثوقية عن تاريخ جنوب إفريقيا، فضلا عن كونه مراسلا سابقا لصحيفة (أوبزرفر) اللندنية، التي حقق عبرها شهرة مهنية عالمية. كثيرا ما عبر سباركس عن ضيقه وتبرمه من كثرة الإلحاح والسؤال الذي يواجهه به البيض أينما ذهب إلى أوروبا التي ينحدر منها أجداده وآباؤه البيض: ماذا حل بوطنك وبأهلك البيض بعد كل الذي فعلتموه هناك؟ انظر كيف كانت العاقبة وسوء المآل؟ هكذا كان يواجه بالسؤال المتحيز للبيض وحدهم، على افتراض أنه أبيض ومن الطبيعي أنه ينحاز للبيض.
غير أن سباركس هو ابن وسليل مجتمعه الجنوب الإفريقي، ببيضه وسوده معا. هو ابن ونتاج تلك التجربة السياسية الملهمة التي وحدت بين البيض والسود، ودفعتهم جميعا باتجاه صنع تاريخ بلادهم المعاصر، وتحقيق واحدة من أميز التجارب التي ينبغي أن تستفيد من دروسها البشرية. لهذا السبب فهو يغويه من ناحية الميل الخاص لتسمية كتابه هذا بـ(ما وراء المعجزة). ومن ناحية أخرى فهو يعلم أن ما تحقق هناك في جنوب إفريقيا من إزالة عار الفصل العنصري بين البيض والسود، وكتابة صفحة جديدة من صفحات تاريخ الإنسانية، لم يكن ضربا من الخيال ولا الأساطير ولا المعجزات في شيء. ففي رأي الكاتب أن ما تحقق في هذه التجربة, هو نتاج واقعي لكفاح مجتمع بأسره ضد نظام التمييز والفصل العنصري. وأنه لا يدخل في باب نبوءات أسطورية من شاكلة (الطريق إلى دمشق) أو غيرها.
لسباركس تجربة وعلاقات متميزة مع زملائه الصحفيين السود قبل وبعد وأثناء حكومة الرئيس نيلسون مانديلا. وله ملاحظاته الحصيفة على أداء حكومات ما بعد الفصل العنصري، بحكم عمله في ظلها، ومراقبته لأدائها عن كثب، وتغطية ذلك يوميا من خلال عمله ومهنته الصحفية. وبحكم المهنة ذاتها والسمعة التي حققها الكاتب عبرها، أصبح سباركس من ذوي الأهلية القادرين على قول كلمتهم في هذه التجربة وتقييمها سلبا وإيجابا.
ولكونه عايش تجربة التحول الاجتماعي هذه، فهو لا يشك مطلقا في حجم الإنجازات التي تحققت إثر زوال نظام الفصل العنصري، ودك حصونه وقلاعه للأبد. تلك بحد ذاتها إحدى أبرز الإنجازات تحققت في مسار التحول الاجتماعي الذي انتظم جنوب إفريقيا. ومن فرط قناعته بديمقراطية هذه التجربة ومثاليتها، فهو يحلم بأن يأتي اليوم الذي تحل فيه مشكلة الشرق الأوسط، ويؤول فيه النزاع الدائر الآن بين الفلسطينيين وإسرائيل، إلى حل ينتهي فيه هذا التمييز القائم على أساس الدين والعرق، إلى دولة ديمقراطية واحدة، تكون فيها الأغلبية للكثافة السكانية الفلسطينية الأكبر عددا، بينما تحفظ فيها للإسرائيليين واليهود حقوقهم الديمقراطية الكاملة، باعتبارهم أقلية في تلك الدولة.
ضمن تقييمه لتلك التجربة الوطنية الخاصة التي خاضتها جنوب إفريقيا في محو آثار ماضي الفصل العنصري، يتوقف المؤلف مطولا في كتابه هذا على عمل وإنجازات لجنة (المصالحة والحقيقة) التي شكلت وأنجزت مهمتها المتعلقة بتسجيل حقائق المرارات والمظالم التاريخية العنصرية التي دمغت نظام الفصل العنصري، وتدوين هذه الحقائق بما يفوق أية تحقيقات جزئية حول جرائم ارتكبت في ظل وجود ذلك النظام من قبل. كما يوضح المؤلف الكيفية التي تمكنت بها جنوب إفريقيا من تجاوز مشكلاتها الاقتصادية، بما في ذلك التراجع الاقتصادي الذي شهدته مناجم وصناعة تعدين الذهب، التي تقوم عليها أهم ثروات البلاد.
يشن المؤلف حملة نقد قوية على بعض الساسة البيض الطائفيين، بمن فيهم توني ليون، زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي، بسبب عدم قدرتهم على التكيف مع ظروف ومتطلبات العيش في مجتمع ديمقراطي جديد يقوم على التعدد العرقي والثقافي. صحيح أن المؤلف لا يتهاون في نقده لهذا التيار اليميني المحافظ، الساعي لاسترداد بعض مواقع القوى الاقتصادية السياسية التقليدية التي ظلت تتمتع بها الأقلية البيضاء على حساب الأغلبية السوداء المهمشة على امتداد عدة قرون. إلا أنه لا يفقد موضوعيته ويتغاضى عن توجيه اللوم والانتقادات الحادة لتقصير بعض كبار الوزراء في حكومة نيلسون مانديلا ومبيكي في أداء مسؤولياتهم ودورهم في اتجاه التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجديدة التي حدثت عقب انهيار نظام الفصل العنصري. وحذر المؤلف من خطورة ممارسات الطبقة الاجتماعية السوداء الناهضة التي تستخدم الاتهامات المثارة ضد رؤوس الأموال البيضاء، سلاحا ترمي به إلى هدم المواقع والفرص الاستثمارية للبيض، باعتبارهم قوة اقتصادية منافسة للسود. وأهم ما في هذه الانتقادات والتحذيرات، هجومه على ما يسميه (العنصرية السوداء) باعتبارها مكافئا ومقابلا للعنصرية البيضاء السابقة في أيام نظام الفصل العنصري. وقال إن مثل هذه الممارسات تهدد كيان المجتمع الجديد المناهض للعنصرية بكافة ألوانها وأشكالها.
ضمن ذلك يعيب المؤلف على حكومة الرئيس مبيكي تهاونها وغضها الطرف عن ممارسات الرئيس الزمبا